«فشة خلق»
حين كتبت ناقدة رأياً وموقفاً لأحد الأكاديميين من متخصصي الشريعة الإسلامية في الكويت، رد معلقاً بأن كلماتي تبدو «نفثة مصدور» أو ما معناه بالشامي المحبب «فشة خلق» مستعيناً بهذا الأسلوب المعهود من التعالي واللامبالاة اللذين يستخدمان عادة لمواجهة الأسئلة الصعبة، المفصلية أو المحرجة التي قد تضع بعض الآراء الدينية في ميزان الدولة المدنية. محور الحوار كان يدور حول حقيقة أن الدكتور قادر على إبداء رأيه الأيديويولجي بأريحية، في حين أن الرأي «المدني» بل وحتى العلمي قد يقابلهما ألف مطب، أولها قوانين الازدراء والإساءة للذات الإلهية وللأنبياء ولزوجات النبي والتي سبق، أي هذه القوانين، أن ورطت العديدين في قضايا وأدخلتهم فعلياً السجون لمجرد إبداء وجهة نظر تاريخية أو رأي أيديولوجي أو حتى لمجرد تحييد الرأي الديني. كان رأي الدكتور أنه من فِعل القدر أننا نحيا في دول إسلامية تحتكم للشريعة، مصراً على أن مرجعيته، وعلى ما يبدو مرجعية العالم أجمع، يجب أن تكون القرآن الكريم والسنة. لم يكن هناك اعتراض، ولو من باب التمويه، على هذه المعادلة غير العادلة، بل كان هناك تضمين لحمد العيش في مجتمع يأتي على هوى الدكتور ولو بدا ظالماً تجاه الآخرين، فكيف يتشكل العقل الإنساني على هذا المنظور التمييزي وكيف يستريح الضمير، خصوصاً المتنور المتثقف، لهكذا معادلة غير موزونة؟
يقول بعض المفكرين إن أحد آثار التدين المتشدد أحياناً، وذلك في أي معتقد أو دين، أن يعطي شعوراً بالتعالي والأمان، التعالي على الآخرين بضمان امتلاك الحقيقة المطلقة والسعي في طريقها المؤكد، والأمان في رحاب رب لا بد، طبقاً لكثير من القراءات الثيولوجية، وأن يغفر كل الزلات ويكون دوماً في صف المتدين ومحابياً له مهما أتى من آثام مادام باقياً في محيط «الدين الحق». بعض الآراء السيكولوجية تنحو إلى أن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة لا يثبط العزائم تجاه الاستمرار في البحث وطلب العلم فحسب، ذلك أن الاعتقاد بالوصول للحق المطلق والعلم الكامل يرخي الهمة تجاه المزيد من البحث والاطلاع، وأحياناً يتسبب في استثارة المخاوف والقلق منهما، ولكنه كذلك يرخي في الواقع من درجة الالتزام الأخلاقي ومن تأثير الواعز الإنساني. ذلك أنه، في هذا النوع من الأيديويولجيا، لكل الزلات مفاتيح مغفرة، ولكل الرغبات مفاتيح إشباع، مما يعطي الإنسان، خصوصاً الذكر، شعوراً مستمراً بالأمان، بالإشباع، وبالتقدم على الآخرين أيديولوجياً ومعتقدياً.
لم يردّ الدكتور على رأيي لأنه اعتبره مجرد تنفيس، لا أدري تحديداً لماذا؟ ولا أعرف ما المصدر الذي استقى منه الدكتور معلومة أن نفسي كظيمة أو أن روحي مكلومة تحتاج تنفيساً، إلا أنني أعتقد أن أسفل هذا الرد المتعالي هناك شعور بتناقض وتنازع لا طريقة للتعامل معهما ولا رد تجاههما سوى بالجملة المعهودة أن هذا هو رأي الدين ولا حكم لنا بعد حكمه، ولا مسوغ لنا لمساءلة قراءته التي يعتقدها الشخص المعني مهما بدت النتيجة منحازة والتعامل تمييزياً. الدكتور يشير إلى أن الاحتكام يكون للقرآن والسنة وليس «إلى الهوى» حسب تعبيره، ولكن أليست التفاسير المختلفة انعكاساً للأهواء المختلفة وللفهم المتباين لبشر يجتهدون في فهم النصوص والدفع بها لمواكبة حيواتهم وعصورهم المختلفة؟
إن مفهوم «الصواب الذي يحتمل الخطأ» هو مفهوم عسر الهضم على من يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة كاملة والحق المطلق، وهذا الشعور بالتملك للكامل والمطلق هو لربما جزء أيديولوجي ونفسي لا يتجزأ من طريقة التعامل «المنطقي» والعاطفي لأصحاب التوجهات الأصولية العميقة التي، ولأسباب مفهومة تماماً، لا تستطيع أن تفسح مكاناً بجانبها للآخر المختلف. إن الإصرار على إدارة الدول من منطلقات دينية، أي أن يتم تحديد «كودها» الأخلاقي والقانوني بناء على التوجهات الدينية السائدة، لن يفضي سوى لخلق أقليات غاضبة مقموعة تفور جمراً أسفل رماد هادئ مخادع، منتظرة الفرصة لتتوهج إما «كمجموعة إرهابية» مستقبلية أو كفئة استشكالية «تتهدد المجتمع الآمن». وهكذا، تخلق المجتمعات هذه الأقليات الغاضبة بعزلهم وقمعهم ثم يطلقون عليها صفات تزيد من ظلمهم وتمعن في فصلهم عن مجتمعاتهم. المجتمع الذي يقرر سيادة نظام أو مذهب أو فكر ثيولوجي متفرد، هو مجتمع يدق المسامير بين أفراده ويسير بهم إلى نهاية مقلقة حتمية. يتحمل الأفراد كل ضغط وكل قسر وكل إجبار، إلا ذاك الديني. فالإجبار، أو الكبت أو الفرض الدينيين، لا ينتج عنها سوى… ثورة.
«فشة خلق» هذا المقال كذلك؟ ليكن، ماذا تملك الأقلية غير ذلك؟