فجور الخصومة
حين تشير الدلائل السياسية إلى ضعف التيار الإسلامي، وحين تتفاخر الحكومة بعهد تحرري جديد سنتحول فيه إلى مركز مالي وحقوقي، لينخ الجمل عند أول تهويشة من عصا المتحدثين باسم الله والدين، فهنا يجب علينا أن نتوقف عند حالة الفصام الاجتماعية السياسية الغريبة تلك. أسلوب الصراع الإسلامي عندنا في الكويت، ومنذ قديم الزمن، أسلوب يضرب بلا مبادئ صراع أو أخلاق حرب، أسلوب يفجر في خصومته فلا يُحَكِّم حتى أول المبادئ الأخلاقية والأسس الكلامية التي يتغنى هو بها ليل نهار.
يستعرض الفيلم الوثائقي محط الصراع الأخير عندنا في الكويت والذي أنتجه التلفزيون الهولندي عدداً من الآراء المدنية المختلفة في الدولة حول الوضع الاجتماعي والصراع السياسي والأيديولوجي، إلا أن الأهم هو استعراضه لدور الشباب، وذلك من خلال أنشطة مؤسسة لوياك التي تناول الفيلم الجانب الإنساني منها. قدّم الفيلم صورة مشرقة حقيقية لشباب وشابات لوياك وهم يتدربون على النشاط الإنساني الميداني، حيث اصطحبتهم المؤسسة إلى ما خلف الحدود المرفهة في الدولة، حيث بيوت الصفيح والمطابخ المبنية في العراء والمجاري المتوقفة. مشاهد الفيلم كلها تشهد للقيمة الأخلاقية الرفيعة التي تغرسها لوياك في نفوس هؤلاء الصغار ولكيفية تفعيل هذه القيمة بالعمل الحقيقي على أرض الواقع، مشاهد الفيلم تؤكد على الدور الصعب والجاد الذي تؤديه هذه المؤسسة في حياة هؤلاء الصغار، وهو الدور الذي شهدته أنا شخصياً من خلال المساعدات التعليمية والمادية والنفسية والتوظيفية التي تقدمها لوياك كل يوم ودون مقابل ودون تمييز بين مواطن وغير مواطن، غني أو فقير، ذكر أو أنثى، متحرر أو متدين، والتي كلها خلقت آمالاً وأهدافاً أنقذت العديد من هؤلاء الصغار من المعاناة، الحياتية أو النفسية، وما يمكن أن تخلفه هذه المعاناة من يأس وانسحاب من الحياة.
كل ذلك لم يشفع للوياك حين خرجت المؤسِسة الأولى لها، فارعة السقاف، برأيها المعلن في الفيلم حول النقاب. جملة واحدة هي كل ما احتاجه المتربصون لنسف الفيلم بأكمله، وتحويل الانتباه تماما إلى جملة منفردة فيه. لم يدر النقاش للحظة حول الفحوى المهمة للفيلم عن الكويت وتغيراتها الأيديولوجية وتوجهاتها الشبابية الحالية، بقينا كلنا ندور، حتى هؤلاء الذين يفهمون الخطة، في دائرة دفاع وهجوم لا نهاية لها. ولأنه لا خيار آخر في هذه المرحلة، أعود إلى داخل الدائرة وأقول، شخصياً، لا أعتقد بكل تأكيد أن المظهر الخارجي للنقاب مخيف، وبسبب معرفتي الشخصية بفارعة وبعلاقاتها الأمومية مع الشابات غير المحجبات والمحجبات والمنقبات، لا أعتقدها ترى هي ذلك. لربما المقصود كان الخوف من غياب الهوية أسفل النقاب والذي يمكن أن يختفي خلفه أي إنسان بأي نية دون توافر الحماية الأساسية الواجبة في الحياة الاجتماعية العامة والمبنية على معرفة شكل وهوية الشخص الموجود في حيزها المفتوح. أقول “لربما” لأنني رغم صداقتي بفارعة، لا أود أن أدعي معرفتي بكامل نواياها، كما لا أود أن أقف محاميةً لها، فأولاً، ليس هذا دوري ولا هو مطلوب ولا حتى مقبول مني، وثانياً هي لا تحتاجه وهي قادرة على القيام به بنفسها على أكمل وجه.
ما يعنيني هنا هي مؤسسة لوياك، والتي بكل تأكيد ستتشكل كمؤسسة إنسانية وشبابية بفكر وتوجهات مؤسسيها، فهذا ما لا يمكن نفيه، وهو ديدن كل مؤسسة في الدول والعالم أجمع أن تتبع شكل أفكار صانعيها. ورغم أنني لا أتفق والتعبير الذي استخدمته فارعة للإفصاح عن رأيها، ولا أشاركها مخاوفها حتى الأمنية منها، حيث تتوافر وسائل التدقيق التي تقلل المخاطر والمخاوف، والتي هي وسائل وإن كانت متعبة ومكلفة وغير عملية ولكنها في النهاية تحفظ حق حرية المظهر، إلا أنه أولاً يبقى ما قالته فارعة رأياً لا يمكن أن يوضع على المقصلة بهذه الدرجة من الفجور في الخصومة حد استهداف لوياك بأكملها، وهو ثانياً رأي متبدد التأثير، لكل من يعرف فارعة وعملها، أمام طريقة إدارتها للوياك وسياسة قبولها للشباب والشابات فيها. أن تُهاجم فارعة وأن تُنعت بأشد الصفات وأن يُستخدم العنف اللفظي معها، فهذا ديدن المؤسسات الإسلامية والمنتمين إليها والواصلين لمجلس الأمة من خلالها، حفظنا الأسلوب وتدربنا على الوقاية من رذاذ كلماته وسوء تعابيره وانخفاض درجة الحوار فيه، منكم إلى فارعة، هي قادرة على حماية نفسها والصد عن أفكارها، أما لوياك، فكلمة واحدة تصف هجومكم الكاسح عليها، عيب.
العباءة والبرقع هما من تراثنا الكويتي والخليجي بلا شك، أما النقاب (وهو يختلف عن البرقع تماماً) فلا يا سيد مبارك الدويلة، النقاب جديد، نتاج الصحوة الإسلامية التي أتت مع نهايات سبعينيات وبدايات ثمانينيات القرن الماضي. أن تقول بوجوبه الديني فهذه نقطة، أما أن تقول بتراثيته، فلا، ووضعك لنفسك في الزاوية الإسلامية لإظهار المختلفين معك كأنهم في زاوية خارجة عن نطاق الدين لن يجدي ولن يخيف ولن يغير الحقائق، النقاب عادة جديدة نسبياً لم يسمع بها المجتمع إلا بعد الصحوة المذكورة. طبعاً هذا لا يبيح اضطهاد السيدات اللواتي يخترن ارتداءه أبداً كما أنه لا يمنع انتقاده كاختيار مظهري، تماماً كما تنتقدون كإسلاميين صباحاً ومساءً اختيارات غير المحجبات، وكما دفعتم دفعاً بوضع لافتات محزنة عن وجوب الاحتشام في بعض المولات، وكأنكم أوصياء على خلق الله. الانتقاد يا أحبة هو من صلب المفهوم الليبرالي، ولا يتعارض ومفهوم الحرية في شيء مطلقاً، وهو حق أصيل للإنسان طالما لم يُفَعّل هذا الرأي منعاً أو فرضاً. لربما من الأوجب أن نتحدث اليوم، إن كان لكل هذا اللغو فائدة، عن مدى حقيقة اختيار النقاب أو فرضه، وعن مدى قناعة النساء المرتديات له. لربما يتحول الحوار اليوم للمرأة، مرة بالله عليكم حولوا الحوار للمرأة، هذه التي تتجادلون حولها وحول مظهرها وملبسها وحياتها كلها دون أن تشركوها في حواراتكم المغلقة الذكورية في يوم.
أن تقول يا سيد مبارك الدويلة أنك تحترم شخص فارعة احتراماً لشخص أبيها فهذا فكر شائه قديم، يقيم الإنسان على أساس أصله وانتمائه عوضاً عن فكره وأخلاقه، هي إما أنها تستحق احترامك أو لا تستحق، أما التمحك بوالدها فلا يجدر ذلك في زمن الحداثة والحقوق والقيمة الفردية الإنسانية التي لا يبدو أن أخبارها قد وصلتكم بعد. ومع ذلك، ورغم ادعائك احترام والدها، ورغم تدين توجهك، فإنك قلتها وبالحرف: “شنهو الجمعية اللي هذه تديرها”، “هذه” يا سيد مبارك لا تشير لاحترام ولا لحسن حوار، بل هي تحقير للطرف الآخر الذي لا ترغب فعلياً في مناقشته، إنما ترمي لطعنه بسكاكين عدة فور سقوطه. متى يتغير هذا الأسلوب؟
مش مهم، أسلوبكم وأنتم أحرار، لكن لوياك، لا، تلك مؤسسة سنقف لها، تعرفون لماذا؟ ليس لمدنيتها ولا لعلاقة مع مؤسسيها ولا لإنتاجها الفني الذي يسعد القلب، كل هذه أسباب مهمة نعم، لكنها تبقى غير كافية، لي شخصياً، للمغامرة بموضوعية رأيي وبشكله المحايد أمام الناس، السبب أنني وفي حين أنا أترجى هذا وأستجدي ذاك بما فيهم مؤسساتكم الإسلامية العريقة لتمد يد المساعدة للطلبة المحتاجين المتوقفة حياتهم والمظلم مستقبلهم، وقفت لوياك وقفة قوية محايدة، مادة يد المساعدة لكل الطلبة المحتاجين، حيث أسسوا مشروعاً متكاملاً وفورياً لمساعدة الطلبة على إثر مقال لي حول الموضوع، مشروع يعمل بصمت وجد ودون إعلانات صارخة صاخبة يتمنّنون بها على الناس، مشروع مساعدة حقيقي، لا يرمي لتوزيع مساعدات لشراء ولاءات الناس، لا يعطي معاشات شهرية لشباب صغار إغواءً وربطاً لهم، ولكنه مشروع بناء أكاديمي حقيقي للشباب، تشكل لوياك من خلاله مستقبلهم ليتحولوا إلى إضافة لا عبء على المجتمع. فجور الخصومة تعودنا عليه، لكن معول الهدم هذا لمشروع بقي ينقذ الشباب ويوفر لهم بيئات عمل وعلم آمنة لما يزيد على ست عشرة سنة، ضعوه جانباً واذكروا الله، اذكروه، وأنتم من يردد اسمه ليل نهار، ليحفظكم من فجور الخصومة وهوان المبادئ أمام المصالح.