فاقد الشيء لا يعطيه
ثارت ثائرة ذكور تويتر، من الرجال والنساء طبعاً، فالذكورية فكر لا جنس، على مقالي الأخير المنشور في الحرة بعنوان “عود كبريت” إثباتاً حقيقياً لفكرتي التي وردت في المقال. كيف يمكن أن توصل المعنى الحقيقي للمروءة والشهامة والشرف التي يجب أن تتحلى بها النساء والرجال على حد السواء لمجتمع يحصر هذه الصفات في الرجال وتحديداً في ذكورية الرجال، في العنف والوصاية والتحكم بالآخر وفرض السيطرة؟ كيف يمكن أن تقنع مجتمعاً مبني على هرمية ذكورية، الرجل فيه سيد البيت، ليأتي من بعده ابنه الكبير مهما صغر عمره، ليتمكن، ولو كان في السابعة من عمره، من التحكم بأمه وزجر أخته وممارسة “أبويته” وهو بعد يبلل فراشه؟ كيف يمكن أن تفهم جماعة بدائية الفكر ترى كل القيمة في الذكورة وفي مظاهرها وممارساتها، أن الأنثى إنسان متساو، لها أن تقرر مصيرها وتحدد حياتها، وتسلك على أساس من قيمها الأخلاقية الخاصة بها؟
جاء رد الفعل من ذكوريي العقل والروح ليوازي فكرهم لفظاً وتعبيراً، فردد معظمهم توصيف أَعِف عن ذكره وصفاً للرجل الذي لا يتحكم في ويقهر أنثاه، وعبروا بتواضع فكري وجهل إنساني عن رفضهم للفكرة مقاربة لهذا الرجل بالحيوانات. الغريب أن هذا الصنف من الناس دائماً يستخدمون الحيوانات المسكينة لعقد المقارنات، فالرجل أسد ضرغام ينهش من يقترب من أنثاه أو خنزير بليد لا غيرة لديه، وكلا التوصيفين غير واقعي علمياً، ومتى كانت علمية الفكرة مقياساً لمن يعتمد القهر والعنف والتحكم بالآخر أسلوب عيش كريم؟
الغريب أنه كانت هناك مساندة من العديد من “الإناث الذكوريات” اللواتي لم يستطعن استيعاب بُعد موافقتهن على الفكرة. الموضوع لا ينحصر في قبولهن بتحكم الآخر بهن، ولا بضياع حيواتهن في ممرات حيوات الرجال، ليسيروهن كما يريدون، حقيقة بشاعة الفكرة تتعدى بكثير ضياع الحرية وغياب الإرادة. إن تشجيع تحكم ورقابة الرجل على المرأة والإقرار بضرورة فرض وصايته الأخلاقية عليها ببساطة ومباشرة تخلع عنها امتلاكها لمنظومتها الأخلاقية الخاصة بها وتعفيها كإنسان كامل عاقل من القدرة على تفعيل هذه المنظومة. بمعنى، أن المرأة التي ترى أن الرجل عديم المروءة إلا إذا فرض وصايته عليها، فحدد لها مقاييس طول ثوبها، وراقب تحركات عينيها، وحدد تحركاتها وخروجاتها، هي امرأة تعلن أنها غير قادرة على تشكيل أخلاقياتها ولا على التصرف طبقاً لها، غير قادرة على التحكم في نفسها في الواقع، بل وغير قادرة على مجرد تفعيل المنظومة الأخلاقية التي يحددها لها الرجل، هي تقر أنها بحاجة مستمرة للإرشاد الأخلاقي من الرجل ولوصايته المستمر مراقبة وضبطاً للمنظومة والسلوك. هذه نساء تحكم على نفسها أن تبقى طفلات، غير قادرات على النضج، غير مستطيعات لرسم المسار الأخلاقي لأنفسهن، غير مؤهلات لقيادة دفة حياتهن، ليسلمنها للرجال، ليحكمونهن ويضبطون إيقاعهن.
الإقرار مستحق هنا أن مجتمعاتنا بلا شك مليئة برجال حقيقيين يستحقون الاحترام. في حياتي الشخصية لا أتذكر صراعاً سلوكياً أو مظهرياً نشب بيني وبين زوجي في يوم، لربما كانت له ملاحظاته، لربما لم يعجبه شيئ أتيته، فهذه طبيعة بشرية أن نختلف وأن تتباين منظوماتنا الأخلاقية ولو بين أقرب الناس، ولو في أبسط التفاصيل، لكنه لم يشعرني، ومن قبله والدي في الواقع، بوصاية أو تحكم في يوم لأنه لا يقبل على نفسه وصايتي أو تحكمي، وبالتالي لا يقبل علي ما لا يقبل على نفسه، ولأنه يثق بالإنسانة التي اختارها شريكة لحياته، ومعجب بمنظومتها الأخلاقية مبدئياً وقبل أن يقدم على الزواج منها، ولأنه لا يرى في ذكوريته ميزة تعليه درجة أو تعطيه حق حكم أو قيادة أو استعباد للآخرين.
هو اختار شريكة حياة، إنسانة مساوية له لتشاركه مسيرته، لا قاصر يربيها ولا طفلة يفرض وصايته عليها. مرتاح هو في رجولته، التي تستشعرها في كل تصرفاته، في كل تحركاته، في شهامته، في عزة نفسه، في احترامه لقدر وإنسانية كل من حوله. ولأن تلك هي صفاته، صفات الإنسان الرجل الحقيقي، أنا مرتعبة منه طوال الوقت، أحاسب نفسي باستمرار خوفاً من أن أخذله دون أن أدري أو أن أتسبب له في حرج أو إساءة دون مقصد مني، فتجدني أضاعف حرصي الأخلاقي، وأزيد على صرامتي السلوكية، رغم أن ثقته بنفسه تجب كل ذلك، حتى لا أعرضه لألسنة بلا أدمغة، لبشر خاويين، لا يقيمون الرجولة إلا من حيث فرض وصايتها على النساء، ولا يرون في الرجل أكثر من علو صوته، وعنفه، وتحكمه، هذا التحكم الذي يدغدغ مشاعر بعض النساء معتقدينه غيرة ومحبة، ليتحول مع مرو رالزمن ثقلاً وإزعاجاً مزمناً وبذرة كراهية تروم تربة الأسرة الضعيفة أصلاً بشكوكها وتحكم رجالها بها. الرجل الحقيقي، كما المرأة الحقيقية، هو المؤثر في غيابه كما حضوره، هو الذي تخشى خيبة أمله فيك لا غضبته وتهديده لك، هو الذي يستحق احترامك عن قناعة لا عن خوف.
نعم، هناك نساء من النوعية أعلاه، لا يقيمن أنفسهن حق قيمتهن، يرون الرجل الأسد حاجة وقيمة بل وشخصية جذابة. إلا أن الأغلبية النسائية، ولا لحظة شك عندي في ذلك، ينظرن بسخرية، حتى لا أستخدم لفظة أشد، للرجل الحمش الصارخ الذي يحدد وقت “حظر تجول” لأنثاه التي يظنها ضعيفة جسدياً وأخلاقياً، دافعاً في واقع الحال بنسائه لأن يعيشن حيواتهن خلف ظهره، وأحياناً ليبالغن بتمردهن، ضرباً لتسلطه وعنجهية تحكمه. من الغباء الحقيقي أن تعتقد أنك قادر على إجبار الآخر على الالتزام بمنظومتك الأخلاقية مهما بلغت سلطتك وقوتك، يمكن لهذا الآخر أن يحطم أوامرك حتى ولو حبسته في قمقم في مغارة، فبلا قناعة وإرادة حرة، لن يكون لمفاهيمك جوهر. قد يكون هناك مظهر ولو إلى حين، تتظاهر نساؤك رسماً له بالالتزام والطاعة، ولكن الجوهر لا يمكن لك أن تأمر به أو تفرضه أبداً، وفي الأغلب الأعم سيتغلب هذا الجوهر على المظهر ولو بعد حين. هذا واقع حال البشرية، فحتى في أشد المجتمعات تسلطاً وقمعية، يخرج المتمردون، ويقدمون حيواتهم فداء حرياتهم. صعب جداً أن يصل مفهوم الشرف والكرامة والمروءة الحقيقيين لذكور مجتمعات غابرة، يرون المرأة عورة، لربما مشكلة، تحتاح لمراقبة وعلاج مستمرين، وتتطلب التخلص منها في أقرب فرصة لتصبح في رقبة “ذكر” آخر يتحمل عارها ووزرها.
غريب أن تعلق كرامتك على تصرفات غيرك، أن تعتقد أن سمعتك مرتبطة بسلوكيات فرد مستقل، ولو كان الوضع الصحيح كذلك فعلاً، لتلوثت الأغلبية الغالبة من كرامات وسمعات النساء على ما يأتيه “ذكورهم” من أفعال وأهوال. الرجل الذي لا يريد أن يتحمل مسؤولية أخلاقه وسلوكياته، فيبرئ نفسه من كل خطيئة بمعية ذكورته ويخلي ساحة نفسه من كل تصرف لا أخلاقي بحكم أنه (لسبب بيولوجي لا يد له فيه ولا علاقة له بمنهجيته الأخلاقية) هو شايل عيبه، هذه النوعية من البشر هي التي تُحَمِّل نظافة سمعتها وكرامتها على أكتاف النساء، ليتسنى لهم إتيان كل سوء وفي ذات الوقت تلميع شرفهم وإثبات رجولتهم بتكلفة تدفعها نسائهم. هؤلاء لا مجال للحديث معهم أو مع النساء التي تفكر بأسلوبهم حول المفاهيم الحقيقية للشرف والسمعة والكرامة والمروءة، ففاقد الشيء…لا يعطيه.
أعرف أن هذا الكلام صعب على مجتمعات شعارها “الستر زين” وهدفها الحفاظ على المظهر والحماية من كلام الناس، مهما كان مصاب الجوهر. لكن يبقى أن الحقيقة الواقعة هي أن القيم الأخلاقية ستتفاوت، وقد تخطئ النساء وقد يخطئ الرجال، مع التحفظ على كلمة “خطأ” النسبية جداً. كل يتحمل وزره، وكل يتعامل مع مردود سلوكياته، لا أنت، وأنت تعرف نفسك، شرف أحد ولا أحد شرفك. تحمل مسؤولية أخلاقيك وتصرفاتك، الله يرضى عليك، وانظر في أفعالك التي تسود واجهة قارة بحالها، قبل أن تفرش عضلاتك على نسائك محاولاً تغطية نقصك وتنقية سمعتك التي لا يغسلها ماء زمزم جراء أفعالك. تريد أن تحفظ سمعتك وشرفك؟ عليك بنفسك وبتصرفاتك، وإذا كنت تعرف الدين وتقتبس منه حين يناسبك ومما يناسبك فقط، فتذكر أن “لا تزر وازر وزر أخرى”، فابق مع أوزارك واعفنا من مظاهر رجولتك التي لا تثور يوماً على المستحق، إنما فقط على الممكن والآمن استعراضه من الجبناء على النساء الذين “تعتقدهم” لا حول لهم ولا قوة.