«فات الميعاد وبقينا بعاد؟»
تأتي أعظم الاحتجاجات والاعتصامات الطلابية وأقواها وأكثرها إصراراً وعناداً من الجامعات العريقة المعروفة بتميز وكفاءة تعليمها، مثل هارفارد وستانفورد وجامعة كولومبيا وجامعة فلوريدا ثم جامعات أوكسفورد وكامبريدج وجامعة إدنبرة، وغيرها الكثير من الجامعات المميزة؛ لتقول تلك الظاهرة إن التعليم الحر المنفتح على كل المعلومات، التعليم الذي لا يكممه ممنوع أو عيب أو حرام، التعليم الذي لا يخشى الحقيقة ولا يختبئ منها، هذا التعليم هو الذي يُنتج في النهاية أشخاصاً أخلاقيين أقوياء، أشخاصاً يقفون مع الحق لأنه أهم من أفكارهم الشخصية ومعتقداتهم الموروثة، أشخاصاً يغامرون بأنفسهم وسلامتهم ومستقبلهم من أجل الحقيقة، أشخاصاً يعلمون أن طريق النجاة هو طريق كشف الحقيقة وأن القبول والرضوخ تحت مسميات طاعة أستاذي ورئيسي ووليي هو الطريق الحقيقي للمذلة ولقتل القيمة الإنسانية، بل وفي الغالب للهلاك النفسي والجسدي.
الحرية هي مرادف للحق وهي صنو الأخلاق والقيم، لا توجد أخلاق راسخة بلا حرية، لا توجد قيم حقيقية بلا حرية، ذلك أنه إذا وقَفَت أمام الإنسان مشاعر الخوف والرهبة وإذا صدته مفاهيم الحرام والممنوع، فلن يستطيع ساعتها أن يفكر خارج الإطار الذي رسمه له من سبقه، لن يأخذ خطوة للأمام ولن يمتد نظره ومضة لما يتعدى أنفه، ليبقى حبيس ما تعلم من الغابرين، أسير الخوف والترهيب الذي يكبله به الحاضرون، مكبل العقل والروح بموروثات لا يمكن أن تكون صالحة لزمنه وحال الدنيا الحالي من حوله. لن يستطيع هذا الإنسان أن يفكر لأبعد من الأفكار البائتة في وعيه، وسيبقى أبداً راضخاً مستسلماً لما ألقمه إياه السابقون.
وبلا حرية لا يمكن أبداً أن تتجلى الأخلاق وتتفعل، لا يمكن لها أبداً أن تؤثر في من حولها من بشر وأحداث، فالأخلاق تحتاج إرادة حرة، إرادة تجعل من تبينها، أي هذه الأخلاق، اختياراً واعياً لا تقمص وتقليد بائدين. إذا ما تحققت الحرية، تفعّلت الإرادة، وإذا ما تفعّلت الإرادة، تجلت الأخلاق في أبهى صورها، وإذا ما تفعلت الأخلاق وتسيدت الموقف عن قناعة، لا يمكن أن تقف في وجه القرارات الناتجة عنها أي قوى في الوجود، فهي نتجت عن اختيار حر وعن اقتناع تام وعن إيمان عميق بتلك المفاهيم والأخلاقيات التي أسست لها. لقد استوعب العالم الأكاديمي الغربي، رغم سقطاته الخطيرة، هذه الحقيقة بعد ألفي سنة من القمع والحروب، لتصبح حرية الرأي والبحث العلمي من أهم أعمدته التأسيسية ولتأخذ هذا العالم الغربي خطوات هائلة للأمام.
لكن هذا العالم الغربي، الذي لم يستطع قط التحرر من حساباته السياسية الطاغية رغم كل تطوراته العظيمة، لم يأخذ في حسبانه أن هذا المفهوم التحرري الذي أنقذه ودفع به للأمام هو ذاته من سيقف في وجهه حين يطغى ويتجبر ويتجه للقمع. لم يعتقد سياسيو هذا العالم الفاسدون أن منظومة الأخلاق المتحررة ستكون قادرة واقعياً على تحديهم والتصدي لفحش قراراتهم، كل ما كان مطلوباً هو انكشاف الحقيقة واقتناع الضمائر بها، وما إن تحقق ذلك، وما إن تجلت حقيقة الكيان الصهيوني والحقائق التاريخية التي حوطت تشكيله، حتى انقلب الرأي الحر بنسبة كبيرة على الفجر والطغيان، وخرجت صرخة الاحتجاج الثائرة من قلب العالم الأكاديمي العريق الذي أسس للحريات وبنى علومه عليها.
وها هم شباب هذا العالم الذي جُبل على رفع صوته وإطلاق رأيه، الذي تحرر ولو إلى حد ما من الخوف ومن أحكام الآخرين ومن مفاهيم الوصاية السياسية والدينية والمجتمعية، ها هو هذا الشباب يخرج في اعتصامات هادرة مؤثرة يهز بها أركان العالم الغربي الذي حاول بسياسييه الانقلاب على الحريات والتصدي لها. ها هو هذا الشباب يقف متحدياً، رافضاً، منشداً من أجل فلسطين لحظة تكشفت له الحقيقة وتثبتت منه القناعة، دافعاً من أجل ذلك ثمناً باهظاً وتعنيفاً وتهديداً للمستقبل الأكاديمي، بل وتحملاً لتبعات قانونية قد تلاحقه طوال العمر. إلى هذا الحد يمكن للحرية أن تخلق موقفاً أخلاقياً صلباً، وإلى حد الحد يستعد المؤمن المقتنع بها أن يذهب دفاعاً عنها.
رحم الله شعوبنا التي جُبلت على الطاعة وخُتمت جباهها بأختام الصمت الخانع، رحم الله قلوباً وعقولاً كبلتها مفاهيم الطاعة وشلّتها أحكام وعاظ السلاطين حتى ذابت منها كل إرادة وتمكن منها كل خوف، لتمشي أفواجاً جانب الحائط الملوث القديم، مفسحة منتصف الطريق الحديث النظيف المشمس لمن آمن بالحرية ودفع ثمنها فمشى في رحاب طريقها الفسيح وتنفس هواءه النقىّ، وما كان ليتنازل عن نظافة هوائه ونقاء أشعة شمسه في يوم. سنبقى على قارعة الطريق نتظلل بظل الحائط ونتفرج إلى أن نتحرر، وعسى الوقت لم يفتنا بعد.