سيدة عراقية تضيء شموعا بمناسبة عاشوراء
عن مشاعر الغربة والغضب
كتبت قبل أسبوعين مقالا بعنوان “روايات حارقة” حول الطبيعة الطقسية والعاطفية للمجتمع الشيعي، والتي تصبغ كل مناسباته ليس فقط الدينية ولكن حتى الاجتماعية، بصبغة تغرب الشارع الشيعي عن محيطه الخليجي. أثار المقال، كما هو متوقع، حفيظة عدد كبير من القراء، حيث رأى البعض منهم أنها محاولة تملق مني للصف السني، ورأى آخرون أنها محاولة لإثبات ليبراليتي الحيادية بظلم “أبناء جلدتي” فيما اعتقد جزء ثالث أن المقال جاهل بالممارسات الشيعية ومتجاهل لأسبابها.
عند الكتابة عن موضوع الشيعة في الخليج، هناك اعتبارات عدة تعزز الحساسية وتقف حائلا بينك وبين فتح باب الحقيقة على مصراعيه منها أقلية الشيعة في الخليج، والتمييز الذي يتعرض له الشيعة والذي قد يصل حد القمع الشديد في بعض المناطق، والتاريخ الطويل من الصراعات والصعوبات والتهميش، والعزل المجتمعي والاقتصادي الذي يعانون منه في العالم الإسلامي أجمع ـ إيران استثناء بالطبع ـ والارتباط الأيديولوجي مع إيران باعتبارها الممثل “العقائدي” الشيعي في العالم الإسلامي وما يشكله هذا الارتباط من تعقيدات سياسية واجتماعية لشيعة الخليج، وغيرها من الأسباب المجتمعية والتاريخية والسياسية تجعل الموضوع الشيعي موضوع غاية في الحساسية ووفير القابلية للانفجار.
لم يكن مقالي، بكل تأكيد، ناقدا للفقه الشيعي كما ولم يكن محللا للتاريخ السياسي الشيعي، فهذين موضوعين مختلفين ولي فيهما وجهة نظر نقدية لم تكن موضوع المقال. بكل بساطة، هدف المقال لتسليط الضوء على العديد من الممارسات الاجتماعية التي تغرب الشارع الشيعي وتعزله عن المحيط الخليجي، دون إخلاء سبيل الشارع الخليجي العام من دوره طبعا في هذا التغريب والإقصاء والذي هو موضوع كتبت فيه مرات عدة سابقة. في الخليج، يميل الخطاب السني الديني للتمييز ضد الشيعة بالعموم، وتميل الأنظمة السياسية لإقصائهم حد القمع في البعض منها، كما وأن هناك خطابا تكفيريا واضحا لبعض المشايخ المهيمنين في الطائفة السنية تجاه الشيعة لا يمكن إنكاره.
موضوع المقال، كان نقدا داخليا للممارسات الشيعية ولإسهامها في توسيع الفجوة. كل ذلك، لا يفترض أن يمنع النقد الداخلي أو يخلق حرجا من مواجهة الواقع، والطائفة الشيعية لها إسهام ودور في تردي الوضع الراهن، ورغم كل المعاناة، لها أخطاء في التعامل وصياغة الحلول، ولا يجب لأي درجة من التمييز أو المعاناة أن تحجب هذا النقد وذاك التقييم.
قيل لي كذلك إن التوقيت غير ملائم نظرا للأحداث الإيرانية ـ السعودية ـ الإمارتية الأخيرة، والرد هو أن التوقيت دوما غير ملائم؛ فالساحة لا تخلو من أحداث، وتعظيم الخطر الإيراني أصبح “كليشيه” تعودنا عليه وما عاد له تأثير. نعم إيران دولة قوية في المنطقة، إلا أن التخويف المستمر منها هو تكتيك سياسي لتحقيق مآرب سلطوية اقتصادية ولتعزيز أدوار بعض الدول الخليجية والغربية في المنطقة.
وقيل لي كذلك إن نقد الطرف الأضعف هو استضعاف أكبر له، والرد هو أن نقد الجبهة الداخلية هو أهم ما يقوي الطرف الأضعف؛ ففي عز نضال الحركة النسوية وفي أصعب أوقاتها لم تخلُ ساحتها أبدا من نقاد داخليين وخارجيين شديدي اللوم واللهجة، منهن مثلا فيرجينيا وولف الأديبة والمفكرة الأميركية العظيمة، كما وأنه وفي عز نضال السود في أميركا وفي أصعب مراحل هذا النضال كانت الساحة مفعمة بالنقد الداخلي القاس مثل ما ورد على لسان الروائية زورا نيل هيرستون وآخرين. النقد الداخلي، قبل الخارجي، دواء، ومرآة المواجهة إصلاح، من دونهما سيبقى الطرف الأضعف يلعب دور الضحية، وسيستمر في ضعفه وخنوعه برفضه تحمل المسؤولية.
الشارع الشيعي شديد الطقسية، سياسي المناسبات الاجتماعية، ساذج التعاطف مع الموقف الإيراني، حيث ينظر الشيعة لإيران على أنها المنظر المذهبي الأول وعلى أنها حاملة لواء الشيعة في العالم، وفي هذا المنحى التعاطفي الساذج، الخال من العمق السياسي عند أغلبية السائرين عليه، مخاطر كبيرة على الموقف الشيعي الخليجي.
الشيعة بالعموم، كما وسبق أن أشار المفكر الكويتي خليل حيدر في سلسلة من مقالاته المهمة، لن يستطيعوا العيش في إيران مثلا أو الالتزام بنظامها السياسي القمعي أو حتى التعامل مع مصاعبها الاقتصادية. شيعة الخليج هم خليجيو الروح والحياة باقتصادها واجتماعيتها وسياسيتها، ولن يستطيعوا في يوم تحمل النظام الإيراني بأي وبكل جوانبه.
لذا، فإن الحنين الساذج والتعاطف الديني غير الحكيم، لن يوردنا سوى المزيد من الفرقة. تقييم الموقف الإيراني يجب أن يكون تقييما سياسيا لا دينيا وإن اتخذت إيران من شيعيتها ستارا، وكفانا سذاجة ووقوع في الشباك السياسية القديمة المغلفة بالدين؛ أكل الدهر وشرب على هذا الأسلوب القديم البائد.
وكما وأن الوعي يجب أن يرتفع تجاه الموقف الشيعي الخليجي من إيران، كذلك يجب أن يرتفع تجاه الممارسات الاجتماعية الطقسية للشيعة في المنطقة. الحسينيات والمساجد لا جدال حولها، حرية إقامتها والتعبد فيها ونشر الثقافة الشيعية من خلالها حقوق لا مساومة عليها، أما المناسبات الاجتماعية، خصوصا النسائية منها، تقود دفتها عدد كبير من (وإن لم يكن كل) “الملايات”، وهن ساذجات الخطاب، ضعيفات المعلومة، مهيجات المشاعر، محفزات مشاعر النقمة، مضعفات النفس والقلب بتهييج مشاعر المظلومية وبتشجيع النواح والتأسي، هؤلاء يجب إعادة النظر في تأثيرهن الاجتماعي وما يتبعه من تأثير سياسي، وكذلك في طبيعة واستحقاق دخلهن المادية، الذي حول البعض منهن إلى ثريات إن لم يكن إلى مليونيرات في فترات قياسية من الزمن.
الكلام يعجب أو لا يعجب، منطلقاتي مصلحية أو مخلصة، كل ذلك لا يهم، المهم مواجهة الواقع ومحاولة إصلاحه من كل الجوانب، الجانب الشيعي كما السني، لتوحيد الصف أمام المخاطر المشتركة عوضا عن الاتهام المستمر للجانب الشيعي بالعمالة وللجانب السني بالكراهية والتمييز. لا أحد خال من المسؤولية لوصول الأوضاع لما آلت إليه هنا، لا أحد خال.