عندما تذهب السكرة
قد لا تكون الثورات العربية خدمتنا بشيء مثلما خدمتنا في كشف دواخل أنفسنا ومستور أفكارنا. حجم التناقضات والتطرفات، القابلية الممتدة لإتيان العنف، المقدرة الميسرة على التخلي عن الكثير من المبادئ من أجل القليل من التغيير، كلها قد طفت على السطح لتغيم الصورة وتعقد المشهد المعقد والمتداخل أساساً. إلا أن هذا “الطفو” لهذه المعضلات الفكرية والأخلاقية يمكنه أن يكون أحد إنجازات الثورات العربية، هذه الثورات التي نجحت في وضعنا أمام أنفسنا، في مواجهتنا وتناقضاتنا، في مجابهتنا لمعضلات شكلتها حدة طبائعنا وتطرف تديننا وتصحر عاداتنا وتقاليدنا وأخيراً في إجبارنا على اختبار حلم وحدة العروبة وسيادة الإسلام القديمين اللذين هما الآن محط تجربة مريرة قد تصحينا، أتمنى أن تصحينا، من غفونا الطويل.
للثورات ثمن، هذا صحيح، لكنه يجب ألا يخرج من جيب المبادئ والمثل، كل ثورات العالم اختبرت مراحل دموية، إلا أن هذه الدماء ما سالت إلا عندما حادت الثورات عن مبادئها وفقدت تركيزها على أهدافها السامية التي قامت من أجلها، فالسير في الطريق الأطول الذي يحفظ المبادئ هو الذي يوصل إلى بر الأمان لا السير في الطريق الأقصر الذي يتجاوز المبادئ والمثل في محاولة لاستباق الزمن وتخطي المراحل وصولاً لنتائج أسرع. ما يحدث في مصر الآن هو سلسلة من الدروس حول أهمية المبادئ والمثل في صناعة الثورات نتلقاها نحن ويدفع ثمنها المصريون من أمنهم وراحتهم واستقرارهم، فها نحن نشهد نتاج فتح الباب لدور أكبر للعسكر عما هو منوط بهم، نختبر بأم حواسنا ما يحدث عندما يحاول الجندي رسم الخطة وتشكيل الفكر. فأن يساند الجيش الثورة ويأخذ جانب الشعب فتلك حكمة عسكرية، أما أن يأخذ الجيش بزمام الأمور ويدخل طرفاً أيديولوجياً في الصراع خالقاً شبه حرب أهلية في قلب الشعب فهذه رعونة ثورية، ففرد العضلات وفرض عدالة المنتصر لا يوصلان إلا إلى دماء كثيرة ستبقى لزوجتها ورائحتها قائمة بين أبناء البلد الواحد على مدى أجيال.
دروس عدة نشهدها من الثورة المصرية، علنا نستفيد منها، فلا تضيع تضحيات هذا الشعب العظيم هدراً؛ أن تبني نظاماً سياسيا على أساس ديني فأنت تؤسس لحرب أيديولوجية ستأخذ الشعب بأكمله في طريق وعر مظلم؛ أن تصنع ثورتك دون أن تجهز خياراتك فأنت تفتح الباب لكل مريب غريب ليصنع الخيارات و”يدفسها” في الفراغ الذي تركته أنت فلا يعود لديك اختيار سوى بين ما قدم لك هذا المريب الغريب؛ أن تخطو لتغيير الشخص بخطو أسرع من تغيير الفكر فأنت كمن يبلع قبل أن يمضغ، فيتعسر هضمك وتتلوى معدتك؛ أن تقود أنت العسكري ثم يأخذك بوقفته القوية فتسمح له أن يقودك، فأنت قدمت العضلات على المنطق وضحيت بالفكرة من أجل النصر، وما أن تذهب السكرة، حتى تفتقد الفكرة ولا تعود تملك سوى البكاء على أطلالها.
دروس كثيرة وعبر مدينون نحن بها للثورة المصرية وأصحابها، في قلبي ما زلت أؤمن بمصر وأهلها، وأنهم قد يكونون الوحيدين، في عالمنا شرق الأوسطي المنكوب، القادرين على تحقيق المعادلة الصعبة. لابد لتراشق الاتهامات أن يقف، ولابد من تذكر كل المبادئ والمثل التي طالما قالوا لنا إنها “لا تطعم خبزاً” في عالم السياسة، لابد أن يتذكر المصريون أن دماءهم واحدة، وحياتهم واحدة ومركبهم واحد، لابد أن تعود الثورة لمحاربة الفكر المتطرف ولمعالجة، لا محاربة، الأشخاص المتطرفين. الإخوان المسلمون مصريون، دماؤهم حرام على مُثل الثورة ومبادئها، لذا لابد للطرف الأقوى اليوم أن يمد يده للطرف الأضعف وإن تطرف، فالمهزوم ليس لديه ما يفقده والحكمة منتظرة من الطرف المنتصر، لربما هذا الحديث يبتعد عن الواقع ويقترب من المثالية، إلا أن استسلامنا لفكرة استحالته هو نهاية الثورة العظيمة. ليست الحكمة مستحيلة وليست الحلول بعيدة المنال، فقط مدوا أياديكم أيها المصريون، ستتشابك هذه الأيادي ومعاً ستقطفون الحلول.