عكاز البغدادي
كيف تقيِّم خسارتك وتنعى فقدك يوم يخفت فانوسك الأوحد في شارعك الطويل المظلم؟ من سيرى حزنك ومن يقدّر هلعك في ظلمة حالكة نهارها بعيد؟ كيف ننعى إنساناً كانت رسالته التنوير فوافته المنية قبل أن يرى الضوء في آخر النفق؟ كيف نعتذر منه، وقد غادر، كما غادره زميله المرحوم د. نصر حامد أبوزيد، وفي القلب لوعة خذلان وفي النفس اشتياق لاعتذار قديم قِدم جرح أمة بأكملها لا شخص منفرد؟
عندما تخذلك الكلمات فليس لك إلا الصور، وقد وجدتني كلما حاولت أن أصور رثاءً للدكتور أحمد البغدادي رأيت سماءً زرقاء ممتدة، رحابة لا يحدها خط أفق، نهار ساطع ليس له ليل، ففهمت أن رثاء الدكتور لا يكون بتصوير ما كان من ظلمة، بل بما سيكون ويجب أن يكون من نور، وبتصوير الحرية إن كانت لها صورة، برسمها رسماً إن كانت لها لوحة، بعزفها إن كانت لها نغمة، هذا هو الرثاء الوحيد الذي يليق برجل أكبر من الكلمات، فلا يصل إلى قدره سوى المبدأ الأجل في هذه الدنيا… مبدأ الحرية.
والحرية ثائرة كحصان جامح ليس لها حدود، نعم، ليس لها حدود، فلا يمكن لإنسان مثلاً أن يمنع عقله من أن يتوغل في التفكير، من أن يوقف تساؤلاته حول كل ما حرِّم عليه في العرف والعادة والتقليد والدين المسيَّس، يثور عقله ويصهل في جوفه المحترق بينما يبقي ذلك الغطاء الثلجي الخارجي يحميه من مقصلة أحكام الآخرين ومن مغبة رفضه وعزله. نعيش كلنا بعقلين أحدهما يغلي في الجوف والآخر ثلجي بارد على السطح، حتى أصبحنا مجتمعاً يعاني، بشكل جماعي، انفصاماً في الشخصية، فنحرص على أن يكون لدينا بنوك إسلامية وشركات إسلامية وحتى صالونات إسلامية، في ذات الوقت الذي ينتفض فيه مجتمعنا بأعلى درجات الفساد والغش والوسائط الدنيئة والتنفيع البذيء. أصبحنا مجتمعاً يعيش بأكمله في رطوبة السر، والرطوبة تصيب بالعفن، والعفن يظهر على السطح، فنهلل نحسبه زرعاً أخضر، ولا نعي خطره إلا بعد أن تفوح الرائحة ويتسمم البريء… ويفوت الأوان.
لكن، ليس هذا الحديث المناسب لرثاء الدكتور، بل في وداعه تعزف أنغام الحرية، تلك التي ليس لرحابتها نهاية بذات لانهائية العقل الإنساني، قد يكون لها ضوابط تحددها القوانين والأخلاقيات المجتمعية، قد يكون لها صمامات أمان تحددها الدولة المدنية الديمقراطية حتى تحفظ حقوق أفرادها فتوجه تدفقها في الطريق الصحيح، ولكن ليس للحرية حدٌّ، وإن كان، فتلك ليست بحرية.
للحرية جموح وانطلاقة الدكتور أحمد البغدادي، لها عفويته وصراحته التي لا يستطيع لها تحكماً. تشبه الحرية ضحكته الرائقة وقفشاته الساخرة وحكاويه الرقراقة، متصلة ومتداخلة، ومخبوزة في فرن تجاربه، فتأتيك شهية طازجة تسبقها رائحتها الطيبة اللذيذة.
تبدو الحرية كعكازه الذي اعتمده في أواخر الأيام، يثق به ويصطحبه في كل مشاويره ولغاياته كافة، ويهش به من لا يعجبه، ويسند عليه يده الضعيفة التي لم تفقد في يوم ثقتها بالعكاز… عكاز الحرية.
لم تصل اللغة بعد إلى أبعاد التجارب الإنسانية كافة، لاتزال الكلمات عاجزة عن التعبير عن مكنونات النفس البشرية وقاصرة عن تبيان عمق التجربة: ألم الفقد، وخز الخسارة، قرصة الندم، لسعة السعادة، لفحة الحب، ولهفة الشوق. فكيف إن تراكمت في النفس كلها، ألم فقد الدكتور، وخز خسارة علمه، قرصة ندم لكلام كان يجب أن يقال ولو نيابة عن أهله وناسه، لسعة سعادة لمعرفته الشخصية، لفحة حب يحملها القلب دوماً له، ولهفة شوق تحترق أبداً له وهو في بعده الأزلي؟ كيف تُطَوِّع الكلمات لتكتب مرثية وكيف تخلط الألوان لترسم صورة؟ ما من سبيل سوى أن نغلق أعيننا ونتخيل صورة للحرية النقية المعجونة بالمبادئ والمثل النبيلة، تلك هي صورة الدكتور وفي خطوطها الكلمات التي يجب أن تقال وليس من سبيل لقولها، تعجز الكلمات وتقف اللغة واجمة في رثاء الدكتور… الفانوس الأكثر ضياء.
آخر شي: قلبي مع «أم أنور» صاحبة الابتسامة الرقراقة، صغرت الدنيا على الدكتور يا سيدتي، فله في رحاب الله المكان الذي يستحق، طيَّب الله قلبك وقلوب أولاده وكل المحبين والأصدقاء.