عتمة
كانت شاحبة الوجه مغرورقة العينين، حيتني برتابة وبرود على غير عادتها النشطة، وبينما هي تقتادني لغرفة الفحص تفكرت في الإحدى عشرة سنة التي هي عمر معرفتي بها، سيدة هندية صغيرة الحجم على شاكلة التكوين البيولوجي لمعظم سيدات شعبها، فاحمة حريرية الشعر الذي إلى اليوم ما عرفت طوله، حيث استوى كل هذه السنوات في كبة معقوصة أعلى رأسها متناسبة جداً وشخصيتها الحيوية القوية. كلنا، رواد هذه العيادة الخاصة، نحب هذه الممرضة، وكلنا نخشى غضبتها، وكلنا نترجى خدماتها الطبية أحياناً أكثر من الدكتور رئيسها. اليوم شيء عميق تغير في روح هذه السيدة، شيء مؤلم توارى خلف العينين الجادتين إلا عنا نحن محبيها، من عاشرناها وأحببناها وبتنا نزورها مرضى أو متمارضين.
“ماذا بك، طمنيني”. همست بها خشية إثارة غضبها، “لا شيء ابتهال،” تنادينا جميعاً بأسمائنا الأولى بألفة محببة، “فقط أمور عائلية خاصة”. تجرأت ونطقت “أرجوك لا تغضبي من تجاوزي بالسؤال، ولكنك تخيفينني، ما المشكلة؟ علني أستطيع أن أساعد”، “لا أحد يستطيع أن يساعد، غادر زوجي والأولاد الكويت قبل أيام ولآخر مرة، لن يعودوا مجدداً، سيستقرون في الهند”. انخلع قلب الأم في صدري، أكاد أرى ألمها رمادياً يغطي جلدها، بدا شحوبها حقيقياً ملموساً، شحوب أم فارقت. “يا إلهي، لماذا؟ هل الجميع بخير، اعذريني حبيبتي، أنت وزوجك على ما يرام؟” “نعم، نعم، كلنا بخير، لكن الحياة استحالت صعبة، أصبحت قيمة المدارس الأهلية الخاصة مرتفعة جداً علينا في الكويت، الدنيا ما عادت هي الدنيا، والظروف ليست هي الظروف، العلاج أصبح مكلفاً، كنا سابقاً ندفع دينارين، اليوم عشرة على أقل تقدير. أخاف أن يحصل شيء للأولاد، ليس لدينا تأمين لعلاجهم، لا ندري ما الذي يمكن أن يجلبه الغد، لذا ارتأينا أن يستقر زوجي بالأولاد في الهند، وأبقى أنا لتأمين معيشتهم، على الأقل إلى أن يكبر أصغرهم”. “كم عمر صغيرك”. صمتت محدثتي فترة، تخيلتها تحاول بلع ريقها بصعوبة “خمس سنوات، عمره خمس سنوات، عموماً أنا بخير ابتهال، هي أيام الفراق الأولى الأكثر صعوبة، ستمشي الحياة وسنكون كلنا بخير”. بردت يداي تماماً، فوت قلبي خفقة وأنا أسمعها تلي جملتها بضحكة خشنة، بدت أقرب لشهقة بكاء. لم أعرف كيف أرد، أأرد ضحكتها بضحكة؟ أأستمر في كلامي التهويني السخيف؟ موقف مهول أن تقف في حضرة أم فارقت صغيرها ذي السنوات الخمس، لربما لن تراه قبل سنة على أحسن تقدير. فكرت وأنا أنظر إلى يديها المرتجفتين، أن ها هو أول غيث الصراخ النيابي والقرارات الحكومية، تفتيت للعوائل وتفرقة للشمل، ترى هل سيكون هذا وضعا أفضل لنا ككويتيين؟ هل سيكون حال بلدنا ومجتمعنا أفضل ومقيمونا بعضهم هنا وبعضهم هناك، غربة وفراق وألم نفسي وقلق ولوعة، لوعة أمهات وآباء يفترقون عن الأبناء وعن بعضهم البعض؟ هل فعلاً يرى هؤلاء المشرعون أن وجود طرف أعزب وحده في البلد أفضل من وجود عائلته معه؟ إنه انتصار الأغنى وطغيان الأقوى، حالة تعمي البصيرة وتغلق منافذ القلب حتى عن مصلحة الذات. كيف لا نرى؟