عبد المأمور
غريبة هي علاقة الإنسان العربي بمؤسساته الحديثة، ذلك أنه لا يزال يتصرف مع مؤسسات القرن الحادي والعشرين بعقلية القرون الغابرة، القرون التي تسبق تشكيل المنظومات الحقوقية والمفاهيم الفردية والمبادئ الاستقلالية للفرد عن المجموعة وللمجموعة، في حكمها لذاتها، عن الأنظمة الشمولية الأبوية.
لا نزال نحيا بشعار عبد المأمور، بمفاهيم السمع والطاعة، بشعارات الأمان الزائفة للطاعة المطلقة لولي الأمر ولو عصى وفجر و”لرميها برأس عالم واطلع سالم”، بمعنى اتباع ما يقول “عالم الدين” والمشي الأعمى على خطاه وذلك لتحميله هو الذنب حال حاد أو أخطأ، فمن ليست له إرادة لا يتحمل ذنبا أو خطيئة.
وعليه نجد أن مؤسساتنا السياسية مبنية على مفهوم القيادة الأبوية (وهو أحد المفاهيم المعيقة لوجود النساء في المناصب القيادية) ذلك أنه ينظر لصاحب المنصب السياسي القيادي في الدولة ليس على أنه موظف يقدم خدمة تنظيمية للشعب، ولكن على أنه أب، قائد روحي، رمز مقدس يفرض على الآخرين احترامه وطاعته بحكم وجوده لا بحكم عمله.
نلاحظ مثلاً أن شعوب دول الخليج تطلق على قياداتها على مختلف تدرجاتها مصطلحات أبوية تشير إلى أنها تمثل سلطة عائلية كما سلطة سياسية، كما نلاحظ أن الكثير من الخطابات التعاطفية مع الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، قد انطلقت من منطلقات سنه الكبير ومقامه الرفيع وموقعه كأب للأسرة المصرية الكبيرة.
وهكذا تقدم بنا الزمن في شرقنا الأوسط المعتم، إلا أنه سحب معه ذيوله الفكرية الغابرة، حيث لم نستطع الانتقال بمؤسساتنا السياسية من تلك الأبوية الشمولية المطلقة إلى الديمقراطية التكنيكية المستندة على المفهوم الحديث لحكم الشعب لنفسه.
تنعكس صورة مؤسساتنا السياسية هذه على مؤسساتنا التعليمية، فنجد أن الفصل الدراسي في القرن الحادي والعشرين هو ذاته، مع بعض التحسينات الشكلية، للفصل الدراسي الغابر.
ما زال المدرس هو السلطة العليا، ولا زال تقديمه تلقيني مغلف بالحقائق المطلقة، وما زال الحوار مكبوتاً، مغصوباً في طريق أحادي الاتجاه، الأستاذ يقول والطلبة يوافقون، الأستاذ يملي والطلبة ينقلون حرفياً بلا مساحة للتفكير النقدي والحوار التساؤلي.
وما زالت الحركة ممنوعة في الصف الدراسي ليجلس الصغار في مواقعهم محرومين من حرية التجول والتحرك الطبيعي المناسب لأعمارهم، بل وما زال حتى شكل الفصل هو ذاته التقليدي، كراس وأدراج مرصوصة خلف بعضها البعض مذكرة بحافلة ضخمة متجة كلها قسرياً في اتجاه واحد عوضاً مثلاً عن دائرة مستديرة تضع الجميع فعلياً ونفسياً، بمن فيهم المعلم، في واجهة متقدمة موحدة.
ولربما نجد الانعكاس الأقوى للمؤسسة السياسية الشمولية عندنا على المؤسسة الدينية الشمولية والتي لا تزال تعمل من منطلق المنحى الفكري للقرن السابع الميلادي. لربما يجدر التساؤل هنا، هل هذا تأثير المؤسسة السياسية أبوية المنحى على الدينية من حيث ربطها بذات المفاهيم الشمولية أم هي المؤسسة الدينية التي أمعنت في ترسيخ شمولية المؤسسة السياسية ومنعها من السباحة مع تيار التطور الزمني؟
تبدو الدائرة مغلقة كدائرة البيضة والدجاجة، إلا أن المؤكد هو أن مؤسستنا الدينية هي أبلغ مؤسسات أبوية شمولية موجودة على الساحة العامة حالياً، ولربما أكثرها تناقضاً مع الزمن وأحياناً مع مفاهيمها العامة الرئيسية بحد ذاتها.
فعلى سبيل المثال، مطلوب من الإنسان المسلم، خصوصاً في عالمنا العربي، أن يحيا كل تفاصيل حياته من خلال دينه، فتفسير التشريع الإسلامي لم يترك شاردة أو واردة دون أن يتدخل فيها حد تفاصيل المأكل والمشرب وصولاً إلى دخول واستخدام الحمام وانتهاءً بتفاصيل الحياة الخاصة خلف الأبواب المغلقة، إلا أنه وفي نفس الوقت يضع أمام المسلم محاذير لا نهائية تجاه مناقشته أو مساءلته أو اعتراضه على تفاصيل هذا التشريع الديني أو على حيثيات التاريخ الإسلامي أو حول المفاهيم الفلسفية العامة للعقيدة.
مطلوب من الإنسان المسلم أن يحيا حذافير حياته بتفاصيل تشريعية دينية، أن يغلف عمره كاملاً بالقالب الديني ولا يحيد عنه، أن يأكل ويشرب ويعاشر ويتنفس وينظف نفسه ويكوّن أسرته ويعامل أبناءه ويشكّل مؤسساته السياسية ويصوت لمجلسه البرلماني ويختار حاكمه ويؤسس لاقتصاده ويفهم تاريخه ويقدس رموزه وغيرها من الكثير من مناحي الحياة طبقاً للشريعة الإسلامية.
إلا أنه غير مجاز مساءلة تفسيرات هذه الشريعة ولا مناقشة المفاهيم المطروحة عند التشكك أو الرفض لما قد يبدو له مناهضا للمنطق أو المفاهيم الحقوقية. المساحة في المؤسسة الدينية ضيقة جداً حد الاختناق، المتوفر منها هو للتنفيذ، لا للتدبر والتفكير.
لربما معظمنا مر بتجربة الحدود الحمراء الضيقة جداً، فمن جرب منا أن يدفع بهذه الحدود قليلاً أو يوسع منافذ بينها بعض الشيء لابد وأنه اصطدم بالحرامات والكفريات، حيث يرفع الكثير من “رجالات الدين” شعار حرمة التفكير في موضوع معين أو مساءلة رأي معين، مؤكدين على ضرورة تفادي التأمل في أفكار قد تؤدي للتشكك، ذلك أن الشك فردي، يميز الإنسان ويعطي بعداً مختلفاً لفكره، والفردانية والتميز والبعد المختلف كلها كلمات مرعبة لأيديولوجيا قائمة على اليقينيات القطعية والشمولية العبادية والالتزامات الجماعية.
لا مكان للفرد بتساؤلاته المنفرده في القالب الجمعي الشمولي الذي نحيا كلنا فيه قسراً في عالمنا العربي الإسلامي، ولذا، نحن لا نتحرك كثيراً، لربما لا نتحرك مطلقاً، إنما ندور في أضلع القالب الصفيحي المغلق علينا، لا أمام ولا خلف، لا ماض يمكن أن نفهمه حقيقة ولا مستقبلا يمكن أن نقيّمه بحرية، نحيا اللحظة كما هي موصوفة لنا، وإذا تعديناها لما بعدها، سرعان ما تعيدنا حرمة التساؤل إلى سابقتها.
لا أسئلة، ولذلك لا أجوبة، وعليه لا مكان نذهب إليه إلا لحظتنا العصابية المستمرة كأنها لعنة سيزيف الموعود بحمل صخرته من أسفل الجبل إلى أعلاه، لتعود متدحرجة نزولاً وليعود هو لعذاب حملها صعوداً من جديد. أي شيفرة سحرية يمكن لها أن تنقذنا، فترفع اللعنة وتفتح العلبة الصفيح؟