عبادات أبوية
ملفت جداً كيف يتحكم النظام الأبوي البطريركي، لا يزال، في تعاملاتنا في مختلف مناحي حياتنا من أكثرها عمومية، من حيث علاقتنا بحكامنا ومسؤولينا، إلى أكثرها خصوصية من حيث علاقاتنا الأسرية بالكبار في أُسرنا.
بدأ هذا النظام الأبوي يأخذ شكلاً بشرياً واضحاً ومقنناً منذ العصر الروماني، حين ظهر زوس، الرب، الحاكم والأب، ليكتسب الكثير من الأهمية والرفيع من المقام بحكم ذكوريته وموقعه الأبوي تجاه البشر أو الخلق.
كان زوس نقطة تحول من الآلهة المؤنثة إلى الآلهة المذكرة، ومن المفاهيم الخلاقة للحب والحياة والجمال التي مثلتها الآلهة الأنثوية إلى مفاهيم القوة والعنف والعقاب الشديد التي مثلتها الآلهة الذكورية. عندها تبدلت العلاقة، من تلك التي سادها التواؤم والتحاب والاتفاق بين البشر والآلهة إلى أخرى محكومة بالخوف والسيطرة والتهديد من آلهة شديدة العقاب تجاه بشر عبيد لا يملكون من أمرهم شيئاً.
هذه الفكرة شديدة الذكورية التي بعد سيطرتها على الفكر الديني امتدت للفكر السياسي لتعنون الحاكم إلهاً أو أباً لا يجوز مخالفته، هي آخذة في الخفوت حد الاختفاء في المجتمعات الغربية والتي ما عاد الحاكم أو المسؤول فيها يمثل لهم أكثر من مجرد موظف في الدولة، يستوجب شديد الحساب وقليل التبجيل، إن وجد هذا التبجيل أصلاً.
في المجتمعات الغربية يعامل الحاكم أو المسؤول الكبير بقسوة ويحاسب بدقة ويلام على أقل الهفوات ولا يمتدح لأعظم الإنجازات، ذلك أن الإنجازات واجبه والهفوات خطايا لا يمكن غفرانها له نظراً لما يملك تحت يديه من إمكانيات ومقدرات.
هكذا ينظر المجتمع الغربي لمن يتبوأ منصباً في الدولة، موظف مهم ربماً، لكن على قدر الأهمية يأتي الحساب وعلى عظم المسؤولية تتجلى التخليات: التخلي عن الحياة الباهظة، التخلي عن الخصوصية، التخلي عن أبسط التعاملات التي قد تستجلب الشبهات.
هذا التغيير للمنظور الأبوي في التعاملات السياسية عند الغرب أصاب كذلك المنظور الأبوي في التعاملات الأسرية وفي تحديد طبيعة العلاقات بين والاستحقاقات لكل أفراد الأسرة. في مجتمعاتنا، ينال الأبوين مقاماً رفيعاً نتاج الفعل البيولوجي: حدوث التخصيب ثم وقوع الولادة.
يتخذ الآباء والأجداد والأعمام والأخوال، وأقل منهم قليلاً الإناث صاحبات ذات “المواقع الأسرية”، مناصب اجتماعية رفيعة تلقائياً وبحكم القرب البيولوجي، حتى أنه يصل الخطاب في مجتمعاتنا ثقافياً ودينياً لحد حث الأبناء على قبول أي إهانة، لفظية كانت أم جسدية، وفي عمر صغير أو كبير، بحجة هذا الموقع البيولوجي للأبوين ولبقية الأقارب. تفرض الثقافة الاجتماعية والدينية على الأبناء رضوخاً لا يبدد الكرامات فقط بل أحياناً الحيوات بأكملها وبكل اختياراتها وطرقها التي قلما يستطيع الأبناء الخروج عن تحديداتها ونصاباتها وذلك بحجة وجوب الطاعة وضرورة تحمل كل وأي أذى ممن وضعتهم البيولوجيا في مناصبهم الاجتماعية الرفيعة.
في الغرب، لم تعد الصدفة البيولوجية كافية لتشكيل هذه الاستحقاقات، فالأبوة والأمومة وبقية “المناصب الأسرية” مستحقة بحسن الرعاية وبطيب التفاهم لا بالبيولوجيا الخالصة. ينتظر المجتمع الغربي من الآباء والأمهات الاجتهاد لاكتساب المكانة المرموقة، فعليهم العمل على استحقاق لفظة أب وأم وكل مزاياهما، ذلك أنه ينظر للأبوة والأمومة على أنها وظائف رفيعة مقدسة بالغة الصعوبة، واجباتها أكثر من استحقاقاتها، وفاتورتها أعلى من مدخولها، وحتى “البر” المطلوب من الأبناء لاحقاً له نوعية وقيمة تختلف تماماً عن مفهومهما الشرقي، فالبر بالوالدين عند الغرب يستلزم البر بالأبناء بل ويقدمه أولاً ويعليه شأناً.
هؤلاء الأبناء لم يختاروا أن يولدوا أو لمن يولدوا، ولذلك، فإن كل رعاية وصرف وخدمة قدمها الوالدين للأبناء هي من صميم واجبهم، لا يستعملونها لاحقاً للضغط على ضمائر الأبناء ولا تعطيهم استحقاقات كبرى إلا إذا ما تضامنت مع إضافات تربوية تجعل منهم آباء وأمهات مميزين وبالتالي تحقق لهم علاقات مميزة مع أبنائهم.
لقد تغلب الغرب تماماً على هذا القالب الأبوي، لم يعد للحاكم أو المسؤول استحقاقاً بصفته وإنما بمقدار أدائه السياسي كما ولم يعد للأبوين استحقاقات بصفتهما ولكن بمقدار أدائهما الأسري. إن ربط القيادة مباشرة بالأبوية، وبالتالي وضع المسؤول موقع الأب، هو ممارسة نوع من أنواع الضغط النفسي على الشعب يجعل من النقد فعل غاية في الصعوبة، فهو ليس فقط فعل موجه لحاكم أو قائد أو مسؤول ولكنه موجه لأب كذلك، ولذلك دوماً ما نسمع في الشارع العربي عن استنكارات لنقد الحكام أو المسؤولين بحجة “عيب، هو في مقام أو سن أبيك” متناسين تماماً أن هذا الأب اكتسب هذه اللفظة من وظيفته التي يجب أن يتقنها وفي حال ما لم يتقنها، فإنه لم يعد يمتلك هذه اللفظة أصلاً.
هذا القالب هو ذاته الذي يحكم العلاقات الأسرية في شرقنا وعكسه هو ما يحكم العلاقات الأسرية في “الغرب الشرير”.
لغة الغرب هي أن الجزاء من جنس العمل، أما لغة الشرق فهي أن الجزاء من جنس موقع القوى، وهذا مفهوم لن يصمد في عالم اليوم طويلاً.