«عافور»*
دعني أحكيك يا أبا عدنان، أيها الفنان العظيم، فتى أحلامنا الأول الذي لا يخفت سحره، رجل النكتة الساخرة التي تنخر أعماق المشكلة بخفة دم نادرة، صاحب الكاريزما الطبيعية التي لا تحتاج أي “سنيدة”، صاحب الصوت القوي الذي تسقط أمامه الرقابة وسكاكينها، دعني أخبرك، بعد أن أمتعتنا بمقابلتك على تلفزيون الكويت يوم الخميس الماضي 15 من مايو، دعني أسرّ إليك ما ليس بسرّ، وأشكو إليك ما ليس بمشكلة مؤقتة، بل واقع حياتي مزمن. آه يا أبا عدنان، مشاكلنا متراكمة مكومة، عميقة وحقيقية، تكفي لأن تكتب لها وبها تلالاً من النصوص لو لم تكن هناك رقابة تقصقص أجنحة الكتّاب وتلجم ألسنتهم، وهي المشكلة التي لابد أن تكون قد خبرتها بنفسك.
قبل مقابلتك بساعة، كنت أحضر ندوة “المنتدى الخليجي” المقامة بمناسبة يوم المعتقل الخليجي، نعم، أصبح له يوم هذا المعتقل الخليجي، وارتفع عدده وصحبه إلى ما يقرب من 30 ألف معتقل في سجون الخليج. مشاكلنا أكوام، أكوام والله يا أبا عدنان، نحمده الذي لا يحمد على مكروه سواه، كما طلبت منا في المقابلة، ولكن لدينا من الابتلاء ما يزود الكتّاب بمادة تملأ أيام حياتهم وتستنفد حبر أقلامهم. نعم، لدينا فقر في الكويت، أسر متعففة لا تجد لقمتها، أطفال بدون لم يذهبوا إلى مدرسة في حياتهم، مرضى مكسورون ينتظرون دوراً قد يصل إلى ستمئة وزيادة في مستشفيات “بعيدة” يذهب لها الناس “البعيدون”.
لدينا أسر صغيرة تنتظر سكنها، تدفع مبالغ شهرية مهولة لإيجار متضخم يلتهم مدخولها ويأكل كل فرصها في حياة مريحة، لدينا نساء منقوصات المواطنة، مشروخات المقام، هن وأولادهن ليسوا بأسرة، لا يستحقون السكن والرعاية وغيرها من الحقوق إلا عندما يدخل في المعادلة رجل، لدينا عمالة تباع وتشترى، تعيش بيننا بلا قوانين تحميها وتقنن حياتها، لدينا كويتيون هم ليسوا بكويتيين لما يزيد على الخمسين سنة، عذاب وإهانة وحرمان، لدينا فساد “لا تحمله البعارين”، لدينا دسائس، لدينا حكومة ومجلس أمة ونظام تعرفها أكثر مني طبعاً، لدينا غضب وحرمان، لدينا اعتقالات رأي وتعذيب في السجون وضحايا لهذا التعذيب، لدينا معتقلون أطفال، لدينا تطرف ديني يسمم الهواء، لدينا عنصرية وقبلية تلوثان الأرواح، لدينا شعب انقسم، شيعة وسنّة، بدوا وحضرا، داخليين وخارجيين، مشاركين ومقاطعين، “سيسيين” وإخوانيين، مع النظام السوري، مع النظام البحريني، أغنياء، فقراء، تجارا عريقين، تجارا محدثي النعمة، أصيلين وبياسرة، لدينا تقسيم تقسيم التقسيم، حتى ليمكنك أن تصنف كل كويتي منفرداً على حدة، لدينا مصائب كثيرة يا أبا عدنان ولربما أولها أن ليس لدينا قلم فني يكتبها ويعبر عنها، وهي المشكلة التي أعلنتها أنت في مقابلتك الشيقة.
وأما غضبتك من أجل المسرح فقد كانت أدفأ ما في المقابلة، فكما قلت أنت، ليس هناك أحد في مجلس الأمة تجرأ وتحدث عن المسرح، لم يقف أحد لينصفكم وأنتم واجهة الكويت كما تفضلت، أنتم ممثلوها، سفراؤها لشعوب العالم. معاناتك رأيتها في عينيك قبل أن أسمعها على لسانك، أين التجهيزات الفنية؟ أين الاستوديوهات؟ أين ورش الديكور؟ أين التمويل الفني؟ والكارثة العظيمة، أين المسرح المجهز؟ أيجوز أن يقف الفنان على مسرحه ليسمع صراخاً من آخر القاعة من مشاهد يشكو غياب الصوت كما شكوت أنت في المقابلة؟ أين الخشبة المعدة بتكنولوجيا حديثة، أين النص؟ أين النص؟ أين النص؟
للمسرح هيبة، قدسية لا يعرفها إلا ملوكها مثلك يا أبا عدنان. للمسرح الغربي شروط ليست تقنية فقط ولكن لربما طبية وصحية كذلك، فالمشاهد يجب أن يكون مرتاحاً تماماً سمعياً وبصرياً وأن يكون نصيبه من الصوت والرؤية متساوياً تقريباً مع كل الحضور في القاعة. قاعة المسرح في الغرب تسمع فيها وعلى امتلائها سقوط الإبرة على أرضيتها، يدخلها الزوار برهبة، ويظهر على خشبتها الفنانون بعظمة، تجربة فنية فلسفية متكاملة. لك أن تتألم وتتكلم يا أبا عدنان، فالمسرح الذي بنيتموه لسنوات، هدمته المادية والرقابة اللتان أنتجتا نصوصاً ركيكة وضحكا رخيصا وطرحا ساذجا، فأصبحت الخشبة المقدسة مسطحا منتهكا للنكتة السمجة العنصرية والحركة الهوجاء والكلمة البائسة، ننعى من خلالها ماضيا كان واعداً وما وفى بوعده.
أبا عدنان، نحن نحبك، وننتظر منك أن تقول المزيد، وتقدم المزيد، قبل أن يزيد الوضع سوءاً ويزيد.
*عافور هو عنوان مسلسل عبدالحسين عبدالرضا
لرمضان القادم.