ضمير مستتر
لطالما شكل تحالف المال والسلطة مشكلة سياسية عالمية مزمنة، وهي مشكلة رغم عموميتها البشرية إلا أنها تتجلى بأعمق صورها في دولنا الخليجية المعجونة ليس فقط بالمال الوفير ومواقع السلطة الواضحة وكذلك الخفية المتجذرة أسرياً وتحالفاتياً، ولكن كذلك من خلال الفكرة الأبوية القبلية التي تعطي لهذا التحالف المالي السلطوي بعدين آخرين، بعد تقاليدي وآخر ديني يجعلان من مفهوم الطاعة واجب اجتماعي وأمر عقائدي لا مفر من استكماله.
تتحالف السلطة بالمال في منطقتنا “الحارة” ليشكلا كينونة ألماسية يستحيل كسرها، تمتد عروقها البراقة عميقاً في جذور المجتمع، تستمد هيبتها ليس فقط من سلطتها وقيمتها الحالية ولكن كذلك من تراثها المالي والسلطوي القديم، من تاريخها الذي يدخل بين فترة وأخرى “الدراي كلين” تنظفه أبخرة الأموال والنفوذ.
وينضم لاحقاً لهذا التحالف المكوِّن الديني السياسي، الذي يعمل بمثابة السكرتير الشخصي للكينونة الألماسية تلك، فيورنشها ويلمعها ويقدمها في أبهى صورها للشارع العام الذي، رغم قواه البشرية، يبقى هامشياً في هذه المعادلة الغريبة. طبخة من نوع هي، يفهمها كل البشر، ولكن لا يختبرها ببعدها العرقي والأسري والتاريخي أحد كمانا في منطقتنا العربية الخليجية بالذات.
تلح علي هذه الفكرة منذ فترة ونحن نشاهد الصراعات السياسية المالية إبان الانتخابات الكويتية، والتي طالما فخرنا بها، أي الانتخابات، ككويتيين على أنها المثال الأكثر صحية في عالمنا العربي إلى اليوم.
إذ تمر السنوات ويأتي مجلس ويذهب مجلس، ونبقى نحن نأمل في مجلس أفضل وغد أفضل، إلا أن المؤشرات ليست في صالحنا، ليس فقط بسبب التدخلات الحكومية، المال السياسي، التحالفات المستترة، الصراعات السلطوية، ولكن، وأتصور أنه السبب الرئيسي، بسبب الجرأة غير المسبوقة في استعراض القوى المالية واستخدامها غير الخجول لخدمة الطموح السياسي.
ما كان “ضميراً مستتراً” في السابق، وهو تستر قلل الفساد السياسي إلى حد ما، أصبح اليوم ضميرا سافرا، لا مشكلة لديه في استعراض قواه وفي التصريح الواضح بتأثير نفوذه وأمواله على القَدَر السياسي للبلد. نحن في ملعب كرة قدم فاخر على امتداد الخليج العربي، تركلنا على طوله وعرضه أقدام النافذين. تلف بنا الدنيا وتدور ونحن نعرف أنهم يركلوننا، وهم يعرفون أننا نعرف أنهم يركلوننا، ونبقى كلنا نؤدي أدوارنا بإخلاص وبراعة، إن لم يكن خوفاً أو طمعاً، فعلى الأقل طاعة اجتماعية والتزام بأمر ديني أقنعوننا بقطعيته.
يا ترى ماذا يدور في رؤوس النافذين الكبار؟ لطالما أثار مخيلتي هذا السؤال. لا يمكن أن تكون الصورة خالصة الشر، ليس من المعقول أن مشهدهم الأوحد هو الوقوف في مكاتبهم الفاخرة ممسكين ببطونهم بيد والسيجار باليد الأخرى، يضحكون ضحكة عميقة مجلجلة كما في الأفلام. لابد من لمحة ضمير، لابد من محاولة تبرير للنفس وتفسير لحظوظها، كلنا بلا استثناء، على ما أتصور، نحاول خلق هذه التبريرات حين نود إراحة أنفسنا بتبرير استحقاقات ونِعم لا يملكها غيرنا ويتعذب بسبب نقصها سوانا.
ترى كيف يبررون استحقاقاتهم الهائلة وما يترتب عليها من تأثير على أمة بأكملها؟ أن تولد لمحيط ثري في دولة ثرية فتلك ضربة حظ جينية بحتة، علمياً ومنطقياً لا فضل لك فيها وبالتالي لا استحقاقات لك على أساسها، فما الذي يجعل النافذين يؤمنون باستحقاقاتهم العظيمة؟ ما الذي يريح ضمائرهم وهم يشترون الولاءات مثلاً؟
لربما هم يسرون لأنفسهم أنها إرادة الخالق في وضعهم في أماكنهم الجغرافية والاجتماعية وأن تقدير هذه الإرادة يتجلي في الإستفادة القصوى من منافعها؟ تستخدم إحدى قريباتي، وهي مثلي من الطبقة المتوسطة العادية في المجتمع، دوماً هذه الحجة، تقول بصوت جهوري ثابت إننا خلقنا درجات، لأنها إرادة الخالق والقدر، وأن في ذلك حكمة، لذا من هم فوق يجب أن يبقوا فوق ومن هم بالأسفل يجب أن يستمروا في معاناتهم هناك.
هكذا هي الدنيا، ولا تثريب على “العليين” في استخدام أوراق قواهم، فهذه قسمة الدنيا العادلة، البعض فوق والبعض تحت. وحين أسألها وما ذنب هؤلاء الذين أتوا للدنيا من قعر قدميها دون اختيار، تدور الإجابة دوماً حول حتمية القدر، قدر ذو هدف، هدف يخدم الأغنياء النافذين، كما يخدمهم كل شيئ آخر في الدنيا.
من زاوية موضوعية واقعية، قد يكون هذا الكلام حقيقياً ولكن هل هو صحيح؟ لربما مقياس صحة الممارسة تقاس من نتائجها، وما رأينا من استمراء أصحاب النفوذ والمال سوى ارتفاع نسب الفساد وكتم أنفاس الطبقة الوسطى والدنيا في المجتمع والتي هي الطبقات الرئيسية العاملة المحركة للمكائن الاجتماعية.
ومن كل بقعة في الدنيا مثال: تتحالف السلطة بالمال، فتصل درجات النفوذ إلى ارتفاعات غير مسبوقة تجعل أصحاب القوى يتخيلون أنفسهم أشباه آلهة فيعيثون بالناس والأرض إراداتهم المطلقة، فيجثم الفساد مثل القار الأسود الثقيل، فيصبح الطريق حاراً خشناً مظلماً، يتحمله الناس إلى حين، إلى أن يفيض بهم الكيل، فينتزعون القار هذا بأصابعهم وأظافرهم حتى تدمى أياديهم وتختنق أنفاسهم. حين يصل الناس إلى هذه المرحلة، فدونهم الموت، لن يوقفهم شيئ حتى ينتزعوا هذا القار المزفت الأسود، لن يتراجعوا لأنه لا شيئ لديهم في هذه اللحظة يخسرونه.
لا أدري كيف يعمي النفوذ والمال أصحابهما عن رؤية هذا المصير، عن التنبؤ بهذه القصة المتكررة التي استعرضها تاريخنا البشري مرارا ًوتكراراً. في الكويت، نحن نستحق الأفضل، أقولها تحيزاً لبلدي لربما، أقولها إحقاقاً لحق ديمقراطية الكويت، أقولها لعلو صوت أهلها وصلابتهم الموقفية، أقولها لتاريخ الكويت الطيب في المشاركة بين كل قواها وطبقاتها المجتمعية، أقولها لأن الأمل لا يزال موجود ولأن في الوقت متسع.
لابد لنا أن نعي قيمة الدينار، حرفياً ورمزياً، لابد لنا أن نتوقف عن تهيب العلاقات النافذة المالية ذات القناع الأبوي الوصائي وأن نضعها في موضعها المستحق، لابد من الحد من تدخل المال في عالم السياسة، على الأقل من خلال خلق سقوف للمال الذي يمكن أن يصرف إبان الحملات الانتخابية مثلاً وكذلك بالمراقبة الحثيثة على تحركات الأموال السياسية إبان المواقف والمناسبات والأحداث المؤثرة على ساحتنا المحلية.
لازلت لدينا فرصة، ولازالت الكويت بهية بحريات وقدرات أهلها وصوتهم الوضاح. يمكننا أن ننقذ هذه البقعة الجغرافية المميزة الرائعة إذا ما أنقذنا أنفسنا، إذا ما تعلمنا الدرس من “دكتور فوستس” فرفضنا أن نوقع العقد الأبدي بدمائنا، إذا ما نظرنا للبعيد ورأينا الصورة على حقيقتها: أننا نحن صانعوها، نحن مستحقيها.