صرصر
الرأي الإنساني، دع عنك العمل الإنساني أصلاً، هو الأصعب طرحاً وإيصالاً للمتلقي في عالمنا العربي، فمبدأ الحياد الإنساني غير مفهوم لدينا، لا نستطيع أن نرى الآخر إلا في علبة من إحدى العلب الجاهزة التي شكلناها في عقولنا، لا نتقبل الحديث حول هذا الآخر إلا من خلال حكم واضح وقطعي: هو على حق، هو على باطل، هو في الجنة، هو في الجحيم، ليس في إمكاننا مراعاة المبدأ خالصاً دون إقحام لرأينا الشخصي وتقييمنا الأيديولوجي ودون تحديد إطار من الأحكام المطلقة التي نضع الآخرين فيها.
قضية الفتاة رهف القنون التي شغلت الرأي العام العربي مؤخراً، والتي أتت بعد سلسلة من قصص متشابهة لفتيات هاربات من بلدانهن خصوصاً في منطقة الخليج العربي، هي مثال حي على قصور المنظور العربي للأمور. أنا لا أعرف تفاصيل قصة رهف ولا أعرف حقيقة علاقتها بوالديها أو واقعية التعذيب والاضطهاد اللذين تدعي هي تعرضها لهما، ما أعرفه أنها شابة صغيرة ركبت طريق أخطار فادحة خروجاً من بلدها، وعليه، لزاماً على كل إنسان يحمل مشاعر طبيعية، فضلاً عن الناشطين في المجال الإنساني، تمني وصولها سالمة وآمنة واستقرار وضعها بغض النظر عن صحة قصتها من عدمها، بغض النظر عن التقييم الشخصي لحالتها، فالهدف الآن ليس التقييم أو الوعظ أو إطلاق الأحكام، الهدف الآن هو تأمين استقرار وسلامة الشابة الصغيرة، وهو هدف يفترض أن يكون المسيطر على الشعور الإنساني العام، والأكثر، يفترض أن يكون هو الهدف الإنساني البحت والخالص لكل من يعمل في مجال حقوق الإنسان بغض النظر عن الآراء الشخصية والتقييمية للقصة والحدث.
إن أحد أهم حقوقنا الإنسانية هو حق الاختيار، بما في ذلك حق اختيار الخطأ، حق اتخاذ القرار غير الصائب، فإذا ما كان ينظر إلى رهف على أنها فتاة، وهي في الثامنة عشرة أو العشرين من عمرها، مؤهلة لأن تتزوج وتفتح بيتاً على سبيل المثال كما يراها معظم المجتمع الخليجي، ومن خلال قوانين سن الزواج في معظم دوله، فيجب اعتبارها كذلك فتاة كاملة ذات حق في اختيار المصير وفي اتخاذ القرارات، صائبة كانت أو خاطئة، وليس لبقية البشر، والأهم والأخص، ليس للناشطين في المجال الحقوقي الحكم عليها أو تحديد موقفهم منها طبقاً لتقييمهم مدى صواب أو خطأ قرارها. أما إذا ما كان ينظر لرهف على أنها طفلة قاصرة، فهنا تكون سلامتها وأمنها ولين التعامل معها وعدم تعنيفها أو المساس بها جسدياً أو نفسياً على رأس قائمة ما يجب أن يهم الرأي العام ويشغله، وعودة مرة أخرى، خصوصاً الرأي العام الإنساني والمطروح من الناشطين في المجال. يمكن لنا أن نجلس ونناقش مدى خطأ قراراتها، مدى تسرعها، مدى اندفاعها النابع من عمرها الصغير، يمكن التشكك في قصتها، الاعتقاد بمبالغتها، التعاطف مع أهلها، لكن حين تشكيل الموقف المعلن أو تكوين الرأي العام، تأتي سلامة رهف وأمنها وحمايتها من أي تعنيف جسدي أو نفسي وصيانة حقها في تقرير مصيرها على رأس قائمة المطلوب، دون مناقشة أو مقايضة على هذه المتطلبات الإنسانية الأساسية.
يبقى القول، ولربما تفصيلاً في مقال آخر، أن هناك حاجة ماسة لأن يغير الأهل طريقة التفكير والتعامل مع بناتهم تحديداً، هؤلاء اللواتي اطلعن على العالم الخارجي وعرفن مقدار الحرية والاستقلالية التي تتمتع بها بنات جنسهن في مناطق أخرى من هذه الأرض وفي حالات أخرى من هذه الحياة. سواء اعتقد الأهل أن ذلك الوضع صواب أو خطأ، هذه المطالبة بالمزيد من الحرية قادمة، هذا النحو تجاه المزيد من الاستقلالية والقدرة على تحديد المصير سيتحقق، هذه الثورة النسائية مستعرة وستستمر، والأهل الأكثر حكمة هم الذين يستطيعون مد نظرهم للبعيد وتحكيم عقولهم، وتقدير مدى تغير الأوضاع وتبدل الأحوال التي لا مناص من الانصياع لرياحها. الدنيا تمضي للأمام لا للخلف، ومهما حاول البعض التمسك “بما كان عليه آباؤنا”، فستأتي أيام جديدة بقوانين جديدة، وإن طاعك الزمن وإلا طيعه، ومن يروم حياة هادئة سعيدة ومستورة، فعليه أن يقر بالواقع الجديد، وأن أبناء اليوم ليسوا كأبناء الأمس ويجب ألا يكونوا، وأن الظمأ للمزيد من الحريات لا يمكن إطفاؤه بالشدة والتعنت أو بالتحكم والاستبداد. زمن جديد، وواقع جديد، وسواء اقتنع الأهل أو لم يقتنعوا، ستمضي الحياة قدماً، فها هي الثورات تأتي من أشد الأوضاع انغلاقاً، فإن لم تصغ لمفاهيم الحقوق والحريات الجديدة، فلتصغ لواقع الحال ولتحمِ بيتك وأهلك من رياح تغيير قادمة لا محالة، إن لم تنحنِ لها، فستعصف بك وتأخذك في طريقها.