«صرح من خيال»
أخطأت يا سندس وكان الأولى أن يأتي توضيحك محملاً باعتذار واضح ومجملا بحس إنساني صريح، ويا حبذا لو كان كل ذلك مرفقاً بحملة ما للدفاع عن الحقوق أو لمساعدة المستضعفين، كنت ستغلقين الباب وتخرجين منتصرة بأدب الاعتذار وجمال رد الفعل، لكنك اخترت التعالي والعناد لربما محتمية “بصرح (إنترنتي) من خيال”.
اسمعي يا سندس، أعلم صعوبة أن يكبر جيلكم أمام السوشال ميديا، حيث كل رعونة وتهور العمر الصغير موثق عليكم، وحيث المغريات أقوى منكم، وحيث الوصول السريع وما قد يلحقه من كسب سريع يهز الخطو ويقلب المنطق ويخلق حياة غير حقيقية قد تتداعى سريعاً كما بنيت سريعاً. وعلى أنني أتعاطف كثيراً مع كل هذه الضغوطات والمؤثرات، وعلى أنني لا أحب أبداً ركوب موجات الرجم التي كثيراً ما تأخذ وسائل التواصل بتسونامياتها المتوحشة، إلا أن بعض المواقف تستدعي ركوب الموجة بل تصدّرها إن أمكن.
أخبرك أنني لربما أستشعر حجم الضغط الواقع عليك الآن، ومدى الآلام والمخاوف والندم ومحاسبة النفس التي تمرين بها جميعاً، وكلها مشاعر طبيعية إن نفيتها للناس أو حتى بينك وبين نفسك فأنت تنفين عنك إنسانيتك بطبيعة مشاعرها وتقلباتها، وإن كنت حقيقة لا تستشعرينها فتلك مشكلة أخرى لا أتمناها لك ولا لغيرك من الشباب والشابات الذين وصلوا سريعاً وبسهولة، وكثيراً ما يدفعون ثمناً كبيراً لذلك.
هناك مشكلة حقيقية في تنظيم الحقوق بين العمالة والكفلاء أهم عواملها نظام الكفيل بحد ذاته، الذي يعطي حقوقاً شبه مطلقة للكفيل، لكنه يحمله مسؤولية الكثير كذلك، وكأن الكفيل يستضيف طفلاً ولا يوظف إنساناً بالغا مكتمل الأهلية. هذا النظام يضع العامل تحت رحمة رئيسه، وكذلك يضع على الرئيس مسؤوليات غير منطقية، ولا يحميه مادياً من جشع الجهات المستقدمة للعمالة. وجود هذا النظام المريض مضافاً الى قصور تشريعي حاد في تنظيم العلاقة بين العامل ورئيس العمل يخلقان علاقة مريبة بين الطرفين، حيث يصبح التحايل والتناور صفة الطرف الأضعف والبطش والتعسف وقمع الحقوق صفة الطرف الأقوى. إذاً هناك مشكلة حقيقية، لكن أسلوبك، ألفاظك، حتى تعابير وجهك قالت قصة سيئة، تعاليت فيها وإن ما قصدت، بحظك في هذه الدنيا، على الآخرين المحرومين المستضعفين.
اسمعي يا سندس، القصة ليست قصة جواز السفر، القصة قصة الأسباب التي تدفع بالعامل للهرب أحياناً، وقصة القصور التشريعي الذي يحمّل رب العمل مسؤولية ما يأتيه إنسان بالغ عاقل كامل كل ما تربطه به هو علاقة توظيف؛ مما يجعل من الاحتفاظ بالجواز وسيلة لضمان حق المستقدِم، فعندما يغيب التشريع الصحيح تختل العلاقة وتضطر الأطراف المعنية لممارسات مؤذية لحماية حقوقها. عندما يتحمّل رب العمل مسؤوليات وتكاليف سيضطر لحماية نفسه بهذه الممارسة، وعندما يضطهد العامل في المعاملة أو في الأجر، عندما لا يكون لديه الحق في البحث عن وظيفة أفضل لأنه شبه مستعبد من “كفيله”، عندما تكون ساعات عمله غير محدودة وأجره لا يقترب من الحد الأدنى العالمي للأجور، عندما يضج بالغربة والبعد والانعزال وحرمان التواصل مع بني جلدته، عندما يفرض عليه مظهر معين، ويستهزئ به وبلغته، عندما يصبح رب عمله ولي أمره يفرض عليه مقاييس أخلاقية وملبسا خارجيا يميز طبقته الاجتماعية، عندما يحدث كل أو بعض ذلك، لا يكون هناك مجال كبير للحديث عن “أخلاق العامل”، فالأخلاق يا عزيزتي رفاهية، يستطيعها الشبعان الآمن المكتملة حقوقه، أما المضطهد بأي صورة وأي مقدار، فلا وقت لديه ولا مقدرة على ممارسة الأخلاق، فالضعف يدفعك أحياناً لتجاوز التصرف الصحيح لآخر خاطئ لتحمي نفسك وتؤمن كفافك. لذا، عندما تسرقك عاملتك في البيت على سبيل المثال مهما كان كرمك معها، فأنت الملامة لا هي وأنت تظهرين الخير كله أمام حرمانها، وعندما يهرب منك السائق على سبيل مثال آخر مهما حسنت معاملتك له ليجد وظيفة أفضل براتب أعلى، فالقصور التشريعي، الذي لا يحمي حقوقك المالية ولا يحفظ حقوقه الإنسانية في حرية ترك العمل وحرية البحث عن الفرص الأفضل، ملام.
إلا أن القصة الأبعد هي أسلوبك في الحديث، ولربما ما كان لك التطرق لمواضيع إنسانية سياسية وأنت بعد ما بحثت وتفقهت فيها، فزمنكم زمن التواصل الإلكتروني، حيث المعلومة تطير بسرعة الصاروخ، وحيث النقد بلا رحمة والأضرار بلا حدود. ما كان لك أن تمتدحي ممارسة مشبوهة ولو كنت مضطرة لها، كان الأولى أن تتحدثي عن القصور الذي دفع لهذه الممارسة مطالبةً بتعديل تشريعي يريحك ويحفظ حقوق عاملك. أما الأخطر في رأيي والأكثر إشكالية فهو حديثك عن الحق الأساسي في يوم الراحة، أسلوبك وتعابيرك وتعاليك مرفقة جميعاً بإصرارك على صحة ممارسة استعبادية عفا عليها الزمن وما عاد يصرح بها، حياءً وخجلاً، حتى من يمارسها ويؤمن بها، فتلك القشة التي أوقعت المبنى الإنترنتي الهائل، الذي تربعت أعلاه معتقدة أنك في مأمن عليائه، عليك. شهرتك مسؤولية، كان الأولى استخدامها لتدعيم الحقوق وإغاثة المستضعفين، لا الإمعان في اضطهادهم. أعرف أن موجة العنصرية مرتفعة في مجتمعنا هذه الأيام، وأعلم أن أسلوب الحوار تدنى، مما خلق حالة عامة تشجيعية للإفضاء بالآراء التي كان يستحي الناس من كشفها سابقاً، لكن الاستسلام لهذه الموجة سيئ ومصيره أن يسحب سباحيها الى القاع.
وأخيراً، فإنني انتظرت توضيحاتك قبل المشاركة برأيي، لتأتي توضيحاتك أسوأ مما أتت به تصريحاتك. أولاً، اختيار الألفاظ مهم وأولها تجنب استخدام كلمة “خادمة” فهذه تمت إزالتها حتى من أوراق الدولة الرسمية وتم استبدالها بكلمة “عاملة”، ثانياً حجج مثل “هم يخرجون معنا فلم يحتاجون يوم راحة؟” أو “أنا أطبخ وأضع أمام خادمتي” هي حجج لا تظهر جهلاً عميقاً بأسس ومبادئ حقوق الإنسان فقط، بل تعبر كذلك عن انفصالك الخطير عن حقيقة آدمية العاملة في بيتك، عن طبيعة مشاعرها وإلحاح حاجاتها البدنية والنفسية. فحين تتكلمين وكأنك تشيرين للعبة تحركينها وتدللينها أو تمنعينها وتصمتينها متى ابتغيت، فهذا دليل انفصال عاطفي خطير، وهو انفصال لربما يعانيه مجتمع بأكمله، مجتمع اعتاد وجود العاملات وجوها تتكرر ولباسا يتوحد، حتى غاب عنا تفردهن واختلافاتهن. لكل سيدة من العاملات عندنا عائلة وأم وأب ولربما زوج وأبناء وحياة كاملة وخصوصية، لكل منهن آمال وأحلام، لكل منهن قلب يحب، لكل منهن رغبات واحتياجات، إلا أننا، بتوحيد زيهن وتوحيد وجوههن (في عقول لا تميز اختلاف الملامح) وبتوحيد أفكارنا ومتطلباتنا وتوقعاتنا إزاءهن، حولناهن إلى قطع خشبية لا نفرق حقيقة بينها. أعلم يا سندس أنك لربما تجلسين في محيطات تتحدث فيها النساء عن “فلبينيتي” اللي “دفعت فيها ألف دينار” مما يحولهن فعلياً إلى سلع متداولة، إلا أن أخذ هذا الحوار بكل سذاجته وبروده إلى الميديا كان لابد أن ينفجر والحمدلله أنه فعل، فالأمل في النهاية هو في هؤلاء “المفجرين” الذين لا يزالون قادرين على التواصل العاطفي الإنساني.
وأخيراً، عندما تتحدثين يا سندس عن اضطهادك الديني وتوعزين النقد القاسي الحالي إلى كونك مسلمة ومحجبة، فأنت تستدرين المشاعر وتستخدمين الدين لتحمي به نفسك من النقد، وهذا عيب كبير، أما العيب الأكبر فهو أنك بتصرفك تستدعين مقارنتك بالصورة المتدينة التي تدّعين، وعليه تفتحين على نفسك باب مناقشة مدى إسلامية مظهرك ومدى تدينك، وهو باب لا يفترض أن يفتح ولا حق لأحد في طرقه، وكان من الأولى ألا تفتحيه أنت جالبة معه نقداً وتقريعا لا داعي لهما. أخطأت يا سندس وكان الأولى أن يأتي توضيحك محملاً باعتذار واضح ومجملا بحس إنساني صريح، ويا حبذا لو كان كل ذلك مرفقاً بحملة ما للدفاع عن الحقوق أو لمساعدة المستضعفين، كنت ستغلقين الباب وتخرجين منتصرة بأدب الاعتذار وجمال رد الفعل، لكنك اخترت التعالي والعناد لربما محتمية “بصرح (إنترنتي) من خيال”، وللتعالي والعناد ثمن، أشفق عليك منه ومضطرة، كما غيري، للدفع به. ولكن ليس هذا هو نهاية المطاف، أنت سيدة شابة وناجحة وتستطيعين قلب الطاولة. استعيني بمستشار إعلامي وعدّلي الموقف، فستستطيعين تجاوز الأزمة وتعديل الصورة ولربما تساهمين في رفع المعاناة وتحقيق بعض الخير.