“صباع كفتة”
وجدتني أتفق كثيرا مع الدكتور عبدالله النفيسي، الأكاديمي والباحث والمحلل السياسي الكويتي المثير للجدل والمعروف بالصدامات الفكرية على المستوى العربي، في تحليله لجوانب سياسية عدة من حياتنا في إقليمنا المسكين. وكنت لأتفاعل مع آرائه بشكل كبير لولا تقلباته الكثيرة، سردياته المتخيلة للكثير من الوقائع، والأهم لولا الحس الطائفي الواضح والمباشر في حديثه. إلا أن موضوع مقالي ليس تحديدا آراء الدكتور النفيسي، إنما الموضوع يتناول جملة عرضية قصيرة ذكرها هو ولا تزال عالقة بقوة في ذهني، جملة اختصرت الكثير من واقعنا ومآلاتنا.
ففي عارض حديثه المطول الذي امتد لما يفوق الثلاثين حلقة مع المذيع المتميز عمار تقي في برنامج “الصندوق الأسود”، قال الدكتور النفيسي ما معناه أن غاية ما كان يطمح له هو أن يصبح دكتور “مسكت” وهي كلمة تعني فكاهيا باللهجة الكويتية “مكتمل الروعة”. الدكتور أكد أن غاية طموحه كان أن يصبح أستاذا عظيما وباحثا أكاديميا مهما، وأن الجامعة والعالم الأكاديمي كانا كل ما يهمانه والمجال الذي يحب وله يستكين، إلا أن التصرفات الحكومية هي ما حولته، هي ما وضعته على الطريق المشاكس المعارض.
فكرت كثيرا في هذه الجملة، ومعنى وجود صدى قويا لها في نفسي، حيث يبدو أن هذا الصدى دلالة أنها لمست وترا، نكأت جرحا، حركت أحلاما استكانات أسفل السنوات بأثقالها وأحداثها. إبان فترة دراستي العليا، كان طموحي الأهم والأقوى هو أن أعود للكويت لأساهم مع حكومتي في بناء مسرح عالمي، أن أعيد للكويت مجدها المسرحي وأن أساهم في تجديد المشهد الأدائي والبحثي في هذا المجال. ليس معنى ذلك أنه لم تكن لدي اهتمامات في القضايا العامة، فالمشهد العام لطالما كان جزء لا يتجزأ من حياتي، منذ أن كان والدي يصطحبني، وأنا بعد لم أتجاوز الخامسة عشرة من عمري، للجلوس في الخيام الانتخابية لمرشحي مجلس الأمة الكويتي قبل حتى أن تكون النساء جزءا من العملية الانتخابية.
قضايا المرأة وحقوقها كانت كلها جزء “طبيعي” من حياتي، أي قضايا لم تحتج لأن أعيرها اهتمام جديد، فبحكم أنوثتي أنا ولدت بها، أو هكذا تبدي لي دوما، مما جعل الحديث عنها والدفاع عن صاحباتها واجب لا يحتمل النقاش. رغم ذلك فإن منظوري لكل هذه القضايا لم يكن معارضا، لم أتصور أنني سأقف في مواجهة حكومة بلدي في أي نشاط عملي أو حقوقي، إنما تصورت دوما أنني سأعمل في كل هذه القضايا من خلال الطريق السياسي والحكومي للبلد. هكذا كنت أتصور ذات يوم، حين كانت الحياة أبسط، حين كنت أنا أبسط.
ثم أنهيت الدراسة، وعدت للأرض التي لا أتخيل أن أحيا سوى على اصفرار أرضها وأسفل حرقة شمسها، أرض لا أتخيلها سوى جزءا مني، بصحو ربيعها وغليان صيفياتها وغرابة عواصفها ورطوباتها المفاجئة. عدت بالأحلام العريضة والقضايا المهمة، والتي طالما كان الحلم الأكاديمي البحثي أهمها وأقواها، والحلم المسرحي التنفيذي ألذها وأشهاها.
لكن الواقع كان مغايرا، وفي غضون سنوات قليلة تحولت إلى إنسانة مختلفة. تغير الطموح متدرجا في انخفاض سقفه، وتغير الأمل متحولا عن مساره، لأجد نفسي وقد تحولت، بغير إرادة مني، من أكاديمية ترى في المجال العلمي مسارها الرئيسي إلى “ناشطة” متعثرة تقضي معظم وقتها في الدفاع المضاد لا “الهجوم” الإنجازي التحصيلي المهم. تحقق للكويت المشروع المسرحي العظيم، قامت دار الأوبرا الكويتية، أو مركز جابر الأحمد الثقافي، ولم أكن أنا جزء منه، فأنا على الطرف الآخر من المعادلة الآن، لأنني ما فهمت اللعبة صح.
والكويت هي الأفضل إقليميا سياسيا وإنسانيا وحرياتيا، لكنها نجحت في تحويلي من أكاديمية إلى معارضة، فما البال بما يحدث في الدول الأخرى؟ حقيقة الأمر أن دولنا العربية، من المحيط إلى الخليج هي فعليا مصانع ثوار، مطابخ غضب، تغير طبيعة سكانها بإيصالهم إلى نقطة اللاعودة، بأخذهم إلى فكرة “لا شيء لدي لأخسره” ليتحول هؤلاء من أفراد وديعين إلى ثوار غاضبين، ولتتحول استكانتهم إلى غليان وخوفهم إلى “استبياع” وآمالهم إلى مرار لا يغادر الحلق.
أنا لست عند هذه المرحلة بالطبع، ولا أدعي نضالا يفوق حجمي مطلقا، أنا مجرد “ناشطة” أسعى بأقل مما يجب وأعمل بأحرص مما يفترض، ورغم ذلك تحولت، تضررت، تغيرت الصورة أمامي وتغيرت صورتي أمام الآخرين. فما البال بهؤلاء الشباب اليافعين شمال القارة الأفريقية مثلا، يقول كلمة على فيسبوك فيقضي سنوات في السجون، تعذيب واضطهاد وضياع مستقبل؟
ما البال بهؤلاء المناضلات في منتصف الجزيرة، يناضلن من أجل أبسط الحقوق، فيختفين عن الأنظار خلف أسوار السجون، وتضيع سنواتهن وحيواتهن، وتختفي أخبارهن ليصبح مجرد التغريد سؤالا عنهن خطرا مهددا؟ ما الذي يحدث في نفوس هؤلاء المبعثرين في شرقنا الأوسط والذين يختفون فجأة، يقضون عقودا في السجون، يعذبون، تنتهك كراماتهم وتتهدد عائلاتهم؟ ما الذي يحدث في نفوس المنتهكة حقوقهم، الجائعين، الراضخين سنوات تحت أنظمة تقمعهم بفساد إدارتها وسرقاتها؟
ما الذي يحدث في نفوس هؤلاء الذين تنفجر فيهم قنبلة شبه ذرية لتحيل حياتهم الصعبة إلى حياة مستحيلة؟ ما الذي يحدث في نفوس هؤلاء الذين يتخلصون من طاغية ليأتيهم نظام طائفي أنكى وأطغى؟ ما الذي يحدث في نفوس هؤلاء الذين يعانون حربا إعجازية، تعيدهم بالزمن ثلاثمئة سنة للماضي ناشرة بينهم الكوليرا والأوبئة المختلفة؟ ما الذي يحدث في نفوس هؤلاء، يخرجون مطالبين بالعدالة والحرية والديمقراطية فيحولهم إعلامهم الحكومي إما عملاء لإيران أو عملاء لـ”داعش”؟ ما الذي سيحدث لكل هؤلاء؟ هل سيعودون وديعين لصفوف المواطنين أم، إذا ما استطاعوا الاستمرار أحياء، سيتحولون ثوارا غاضبين؟
وسبحان من يخرج الطاهر من قلب الفاسد. من المحيط إلى الخليج، منطقتنا مصنع ضخم تلويثي رأسمالي ديكتاتوري قمعي لصناعة أنقى وأخلص الثوار وأكثرهم استتباعا ويأسا، مصنع يُدخل الناس من هذا الطرف من الآلة، ليخرجوا من الطرف الآخر في نهاية المآل “صباع كفتة” على رأي اللواء المصري العبقري إبراهيم عبدالعاطي، منهكين، معجونين، مأكولين.
تذكرون هذا الوعد باختراع جهاز يقضي على الإيدز والذي حلف به اللواء عبدالعاطي؟ مثل هذا الوعد بكذبه ورعونته يكفي ليقلب حكومات ويطيح رئاسات، عندنا هذا غير ممكن، مثل هذا الوعد يصنع ثوار سيموتون في السجون، أو في أفضل الأحوال، سيموتون بالسكتة القلبية غضبا وقهرا. والحمدلله على كل حال…