شيء ما
أن تفقد
شيئاً ما يهرس قلبك، يترشرش الهواء ملحاً يغور في ثنايا جروحك، تصبح الدنيا بطيئة، كأن أحداثها مسجلة على شريط رديء مذبذب، يخترق الوجع عظامك، فتئن أنين من أمسكت الحمى بحناياه، تتعرق عرق من اشتعلت السخونة في جسده، تغور عيناك ويثقل لسانك وتتورد وجنتيك، فلطالما أضفى الفقد حسناً غريباً على الفاقد، مرتفعاً به عن مصاف البشر، وكأن فقده وحزنه وألمه قد طهرته وغسلته من ذنوبه وارتقت به إلى درجة ملائكية تصعب و”تجلل” الاقتراب منه.
أن تفقد
تفقد حلماً، تفقد أملاً، تفقد إنساناً، تفقد مشروعا مستقبليا، تفقد فكرة، تفقد نظرة، تفقد صورة، صورة إنسان كان ثم أصبح، صورة أمل اشتعل ثم انطفأ، صورة حياة ما عادت. أن تفقد صديقاً أخذته الأيام، أخاً أخذته الخلافات، أن تفقد صورة رسمتها ونظرة كونتها لعزيزك، أن تفقد أملك في حبك، أن تفقد رؤيتك لطريق مستقبلك، أن تفقد حلما للتو بدأ.
أن تفقد فلذة كبدك لعقوق أو لمرض أو لفناء، أن تفقد أمك أو أباك للزمن، أن تفقد يعني أن تقع في حفرة عميقة، يعني أن تحتل فجوة مظلمة منتصف قلبك لا تلبث أن تلتهمه كله حتى ليختفي في ظلام الألم.
أن تفقد
يعني أن يبطئ نبضك وتتسارع أفكارك، أن تمد يديك تريد أن تمس، تتمنى أن تستعيد، تندم وتغضب وتتوه وتعود لتتوه من جديد، فما إن تفقد حتى تيأس، لا يعود لديك أدنى رغبة في أي راحة، تسمح للألم النابض عن الفراغ العسير في قلبك أن يسترسل، أن يبتلعك حد الثمالة، بعدها، وحين يأخذ الفراغ كل امتداده في جسدك ويتقصى الألم كل طيات نفسك، تجدك مجبراً أن تبدأ رحلة البحث عن شيء ما يملأ ثنايا القلب المنكمش على ذاك الفراغ وهذا الألم. أول ما يجذبك هو آخر مثلك، لديه ذات الأعراض “الفقدية”، ذات الألم يتجلى سحراً في العينين، ذات عصرة القلب تظهر في انكماشة الجذع، ذات الصفاء الذي يتجلى حمرة في الخدود وذبلاناً في الجفنين ورجفة في الشفتين، تجده فتبوح، من أول كلمة، من أول نظرة، مع أول دمعة ساخنة وأول رجفة أصابع تمسحها عن الخد المحمًى. تقول ما لم تستطع أن تقوله لأحد، تستغل ألمه نوعاً ما، تصعد على ظهر ضعفه علّك تسترق لمحة من الشمس، تشتمّ نسمة من الهواء، تجد شيئاً غير الفراغ الذي يأويك منذ زمن وتأويه.
عندما وجدتها، رقيقة ملائكية كأنها خيال، سكبت وجعي مباشرة فوق وجعها، وجعي عمره ثلاث سنوات، ووجعها عمره ثلاثة أيام، مددت يدي أحتمي بحزنها، أختبئ خلف جرحها الطازج. كلتانا فقدت، فقداً يجب السعادة التي سبقته، فقداً يطفئ شيئا ما في الحياة، إلا أنني كنت أنا الخبيرة في المجال، عاركت أحزاني وتذوقت مرار الخسارة المتكررة لها، فأخبرتها السر، أخبرتها أنني تعلمت أن أتخذ من الحزن صديقاً لا عدواً، فمن لا تستطيع أن تغلبه فلتنضم إليه. قلت لها بصراحة إن الثقب لربما سيبقى في القلب، وإن جملة “الزمن كفيل” هي جملة، رغم حقيقيتها، رديئة التوقيت إذا أتت بعد المصاب مباشرة، سألتها إن كانت غاضبة، فقالت بل ثكلى، وهل بعد ألم الثكل ألم؟ أردتها أن تظهر حزنها لا أن تداريه بتمثيلية رديئة الإخراج، جربت أنا هذا التمثيل، تمثيل لربما يخدع الجميع إلا الشخص الأهم، نفسك.
ولكن، يخرج الحي من الميت، أعرف ذلك، أكاد أتلمس معناه، سينجلي الألم ذات يوم، ليس تماماً، ولكن الجزء الأكثر نبضاً منه، سيظهر بصيص، ستمرق نسمة، سيلوح طيف ابتسامة، ستخرج غصباً ضحكة، سيعود المعنى للكثير من الأشياء التي فقدت معناها، سيظهر طعم مختلف من تحت طبقات المرار العالقة بالشفتين.
يوماً ما سيأتي فرج ما، فرح ما، أمل ما، إنسان ما، حلم ما، مشروع ما، لربما تستنكر هذا الـ”ما” الجديد، تستنكف سحبه لألمك الذي اعتدته وألفته، وبعد قليل سيملأ الـ”ما” جوف قلبك ويوسع أوعيتك ويهدهد رئتيك، فتصبح ذات يوم وإذا بك تتنفس من جديد. كلنا ننتظر، نعيش لهذا اليوم النقي الذي لابد لنا أن نؤمن بأنه سيصل عن قريب.