شيء لزوم الشيء
تشن الجماعات الإسلامية في الكويت هجمات متكررة في السنة الأخيرة على المجتمع المدني هناك، خصوصاً من خلال مراقبة ومحاسبة نسائه والاستمرار في التضييق عليهن، محولين كل ممارسة حرياتية إلى قضية أخلاقية، غالباً يكون محورها النساء، ومفادها المحافظة عليهن وبالتالي على شرف الرجال و”نقاء” المجتمع الذي “يملكونه.” طبعاً هذه حرب قديمة متكررة، إلا أن آخر موجة لها في الكويت بدأت مع حصول المرأة على حقها في الانضمام للجيش، وهو ما أثار حفيظة الطرف الذي يصح أن نطلق عليه متطرفاً أكثر منه محافظاً في الكويت، ليتطور الموضوع سريعأً باتجاه الدفع بوزير الدفاع للسعي للحصول على فتوى رسمية من دار الإفتاء الكويتية بخصوص هذا الموضوع، لتدفع الفتوى باللوبي الإسلامي لوضع “ضوابط شرعية” على انضمام المرأة للجيش، وأخيراً لينتهي الأمر بقضية أمام المحكمة الدستورية حول الصفة التمييزية المسيئة لهذه الضوابط ضد الكثير من نساء الكويت.
يتردد صدى هذا النزاع القديم المتجدد في كل كبيرة وصغيرة في حياتنا، فمن صراع على تمثال في متجر، إلى آخر حول درس رقص في نادي نسائي مغلق، إلى تالٍ حول شجرة “كريسماس” في مجمع تجاري، إلى غيره حول دورة “يوغا”، ثم آخر حول إعلان يشير للحريات وآخر يليه يشير لإنجازات المرأة في ميادين غير معتادة كالميكانيكا والطيران والمبارزة والملاكمة، حتى بدا أن كل حركة ترفيهية أو رياضية أو اجتماعية في المجتمع الكويتي أصبحت شوكة في جنب الإسلاميين، الموجوعة خصورهم أصلاً من سهام الزمن الذي لا يرحم في تقدمه، ومن فرض لغة انفتاحية “نسائية” عليهم لا يستطيع تقبلها تفكيرهم الذي جُبل على جنسنة المرأة وتحريم كل شيئ فيها. يصعب لومهم فعلياً، وخطابهم الإثابي مليئ بالجنس والنساء، مثل خطابهم العقابي المليئ بصور تعذيب مُستَهدِفة الأعضاء الخاصة للجسد. بالنسبة لهؤلاء، المرأة التي تشكل مادة الثواب والعقاب الأخرويين، لا يمكن أن تكون أكثر من مادة اختبار دنيوية، فهي اختبار لشرف العائلة، وهي اختبار لسمعة الرجل، وهي اختبار لإرادته التي تسيرها فكرة شهوانية غريبة لا تليق بساكن دولة ولا بانفتاحه على العالم، ولا باعتياده الوجود النسائي المفترض في حياته. لا يمكن لإنسان يفكر بهذه الصورة، بأن المرأة هي الاختبار، هي الثواب، هي العقاب، هي الإثم الذي يوصل تفاديه للجنة وارتكابه يوصل للنار، أن يرى في المرأة إنساناً يحلم ويطمح ويرغب في أن يعيش، لا يمكن أن يرى فيها أكثر من شيء، شيء لزوم الشيء.
ثم تفجرت الدنيا من حولنا مع حكم المحكمة الدستورية العظيم بعدم دستورية الجزء الخاص “بالتشبه بالجنس الآخر”، من المادة 198 من قانون الجزاء، والمعنية بالآداب العامة بشكل عام. لقد أضيفت جملة تحرّم التشبه بالجنس الآخر في تعديل على المادة تم في سنة 2007، حيث ذهب ضحية له عدد كبير من الشابات والشباب في الكويت الذين، عوضاً أن يقدم المشرع الكويتي حماية لهم ولنظافة سجلهم الجنائي ولحرمة كراماتهم الإنسانية، ذهب نفس المشرع إلى تغليظ العقوبات عليهم من خلال جملة مطاطة يمكن أن تستبيح مظهر أي شخص، فتُعرضه للإهانة والحبس والترويع المهين. في الواقع، ربحت مواطنة كويتية قضية لها قبل فترة ضد وزارة الداخلية بسبب هذا القانون، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن تم القبض عليها ورميها في السجن لتمر بواحدة من أسوء تجارب حياتها ولربما الأفظع جسدياً ونفسياً.
وبعد لا يريد الشارع أن يستوعب فروق التصنيفات الجندرية بين مثلية وعبور وتبديل مظهري وغيرها، والتي سيوضح فهمها الإشكالية الأخلاقية والإنسانية بل والعلمية الغائرة، لقانون يجرم التشبه في وجود حالات طبية ملحة عابرة للجنس. هذه الحالات تعترف بها وزارة الصحة الكويتية، حيث كانت سابقاً تصدر الشهادات الطبية لهم، إلا أن وزارتي الداخلية والعدل لا تعترف بهم، ولا تُوائم حالتهم الجسدية العابرة حتى لأسباب طبية مع أوراقهم الثبوتية. أي عذاب وهلع يعيش فيه هؤلاء الذين تراهم وزارة الصحة في الدولة وتعمى عنهم بقية وزاراتها؟ يقول الدكتور محمد الفيلي، الخبير الدستوري الكويتي، في ندوة له في جمعية المحامين الكويتية عقدت لهذا الموضوع، أنه من خلال هذا التشريع سيئ الذكر “المشرع يريد أن يقول أنا أريد تطبيق توجيه ديني وهو (أي المشرع) ليس موجوداً لهذا الغرض، فالتوجيه الديني له آلية أخرى. ليس دور الدولة إدخال الناس الجنة أو إبعادهم عن النار. . .عندما تحشر الدولة أنفها في قضية هي ليست موجودة لأجلها ندخل في خلل، خلل من الناحية الدينية وخلل من الناحية الزمنية، إذن لدينا مشكلة في صناعة التشريع”.
تزدحم وتصطدم حياتنا في الكويت “بمشكلة صناعة التشريع” هذه بشكل مستمر، بمشرعين عرفوا كيف يخاطبون الشاعر العام عاطفياً، شارع رغم تأثره بخطبهم الرنانة وبمحافظتهم الطنانة، لا يستطيع أن يلتزم بمنهجيتهم، لربما هم بحد ذاتهم لا يستطيعون الالتزام بمنهجيتهم، محولاً (أي هذا الشارع العام بصخبه الأقلياتي) هؤلاء المشرعين إلى فزاعات لم تعد تخيف أحدأ، ولم تعد تؤثر أيديولوجياً بشكل حقيقي عميق. هم يحدثون الكثير من الشوشرة والإزعاج، هم يطيلون الطريق ويضعون العقبات ويدسون عصي أفكارهم في دواليب الحياة، لكنهم حقيقة لا يفعلون أكثر من تأخير الساعة وإبطاء الحركة. ولكن هل هذا أمر هين في القرن الواحد والعشرين حيث السباق على أشده؟
يصرخ إسلاميو الكويت بأن البلد ستتحول إلى مرتع للفساد بإلغاء مادة التشبه بالجنس الآخر، بدخول اليوغا للبلد، بوجود حصص رقص شرقي، بانضمام المرأة للجيش. وهل يا ترى كانت الكويت مرتعاً للفساد قبل إقرار مادة التشبه في 2007؟ هل كانت الكويت طوال السنوات الماضية التي كان الناس فيها يمارسون الرقص واليوغا قبل أن يكتشفهما الإسلاميون مكاناً موبوءاً؟ هل تبددت الأسر وضاعت الأخلاق حين انضمت المرأة الكويتية للرجل إبان الغزو حملاً للسلاح ودفاعاً عن الوطن؟ الإجابات تحكي قصة إشكاليات عقلية لا سلوكية، حيث التفكير ملتصق بالجسد والشهوة وحيث التدبير دائماً يستهدف الانتخابات لا المنفعة وحيث القليل من الديموقراطية التي نستمتع بها يستخدمها محافظونا المتطرفون ليصلوا على متنها إلى مراكز التشريع ثم ليسدوا من خلالها منافذ الهواء والنور. يستخدمون الديمقراطية والحرية ليصلوا إلى موقع تشريعي يقتلون من خلاله الديمقراطية والحرية لاحقاً وليت الأسباب، على بؤسها، كانت مبدئية وخالصة، كله عمل انتخابي رخيص.
ولأن المواضيع في معظمها مرتبطة بالنساء، يسهل على هؤلاء تصعيب وتسفيه خطابها وإصباغه بالمخاطرة السمعاتية. “فقط ما يهمكم اليوغا؟ تريدون للفساد أن يتمشى في شوارعنا؟ تريدون أن تقلبوا رجالنا نساء ونساءنا رجالاً؟ تريدون أن تقضوا على دور الأم وتخربوا الأسرة وتخرجوا المرأة من البيت؟” تتردد هذه الجمل في محاولة لتخويف وتعبئة الشارع، والذي يعلو صوت أقليته على وسائل التواصل بشكل صادح حتى لتبدو أغلبية. لا أحد، بمن فيهم الإسلاميون أنفسهم، قادر على التمسك بهذه الأفكار أو تفعيلها. إنما ترديدها يشكل خطاباً انتخابياً جاذباً، واستخدام النساء كمادة لها “يمسك الشارع من يده التي توجعه” ويصب الملح على جرح عشائري قديم. إلا أن هذه المبارزة السياسية القميئة القديمة المتجددة تحصد في طريقها، رغم انكشافها وتفاهتها، ضحايا كثراً، هم عادة الأضعف والأكثر عرضة للاضطهاد وسوء الفهم. الحلقة الأضعف دائماً تدفع الثمن، وهو ثمن رغم خطورته لا يبدو مؤرقاً للمشرعين الإسلاميين، الذين كثيراً ما يعتمدون مفهوم الغاية تبرر الوسيلة. بكل تأكيد فكرهم هذا فانٍ، وسيأتي زمن سينهي فيه “الكليرجي” الإسلامي كل تحفظاته المذكورة بل وسيعتذر عنها كما يفعل اليوم تجاه تحفظات الثلاثين سنة الماضية. لكن. . .الثمن المدفوع سيكون كبيراً.