شعوب العصا
واقع الحال أننا شعوب قاسية، نؤمن حقيقة بالعنف، بفاعليته في إيصال الرسائل وتثبيت المعلومة، ولا أدل على ذلك من إيماننا الجمعي الراسخ بفاعلية القسوة والعنف في التهذيب الأخلاقي. يتجه العالم برمته إلى زرع المفاهيم الأخلاقية بالوسائل الإقناعية وبخلق أمثلة يُحتذى بأخلاقيتها وعظمتها، متخلياً عن استخدام الأمثلة المرعبة لمصائر المخالفين والمختلفين أخلاقياً، التي كانت تستخدم سابقاً للترهيب الجماعي.
اليوم يتجه العالم لتثبيت الصورة الإيجابية لا للتهديد بالصورة السلبية، كما أن معظم المؤسسات العقابية في دول العالم المتحضر غيرت طبيعتها من تلك العقابية إلى تلك الإصلاحية والتأهيلية، من تلك التخويفية للآخرين لتلقينهم درساً، إلى تلك المندمجة مع المجتمع والمتواصلة بطبيعته. لقد وصل الحال أن خلت السجون تماماً في البعض القليل من الدول الأوروبية، كما أن هذه المؤسسات التأهيلية أصبحت مضرباً للمثل في جمال ونظافة خدماتها. لقد تغيرت الفلسفة العالمية برمتها من تخويف وعقاب إلى تأهيل وإصلاح. إلا عندنا، ما زال التخويف والإرعاب الأداتين الأكثر شعبية، سواء «للإقناع» أو للإصلاح، وذلك على كل المستويات الأيديولوجية.
ولربما المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو الإيمان العام العميق بعقوبة الإعدام. وفيما يتجه العالم بأغلبيته إلى إلغاء هذه العقوبة العنيفة اللا إنسانية، نبقى نحن نردد: وكيف نمنع الآخرين من ارتكاب الجرائم إن لم نرعبهم بإعدام المجرم؟ أحياناً يستخدم المحاججون العنف للدفاع عن العنف، فتجدهم يستخدمون أقسى وأعنف الأمثلة نفسياً وروحياً تجاه من يناقشهم للي ذراعه ليحيد عن رأيه، فتجدهم يكررون هذا المثال المقيت الرخيص في الواقع: ماذا لو أن أحداً قتل ابنك أو اغتصب ابنتك، ألا تعتقد باستحقاقهم للإعدام؟ ومتى كانت القضايا الإنسانية الأخلاقية تحسم بهكذا ضغط نفسي في لحظة المطالبة بقرار عقلي منطقي؟ ومتى كان شرف النقاش يحتمل أن تفرض على محاورك صورة موجعة قاسية لقسره على الالتقاء برأيك العنيف؟ بل ومتى كان يترك للمعتدى عليه المنكوب في أحبته الحكم على المعتدي؟ هل يمكن أن تكون القاضية مثلاً هي في الوقت ذاته أماً للقتيل؟ تلك أمثلة إن دلت فإنما تدل على عنف نفسي وفكري يمارسه المجتمع بأغلبيته لإثبات صحة رأي عنيف وممارسة انتهاكية لا إنسانية.
إن استخدام العنف النفسي لإثبات صحة استخدام العنف الجسدي هو ضرب ليس فقط من الهزال الفكري والضعف النفسي، ولكنه كذلك ضرب من البدائية السلوكية التي لم يجد التهذيب الحضاري لها طريقاً بعد.
أما المثال الأكثر خطراً، فهو التهديد والوعيد بالويل والثبور، بالسلخ والحرق والتعذيب المرعب في القبر الذي لم يستطع أعظم مخرجي السينما الإتيان بصور ترقى لرعبه، وذلك قسراً للناس على الاعتقاد بالخالق وبالدين الذي هو دين مودة ورحمة. منطقياً، كيف يمكن دفع البشر لعبادة الخالق تهديداً ووعيداً؟ ألا يتطلب الاعتقاد والعبادة الاقتناع؟ هل يمكن أن يتحقق الاقتناع رعباً ونتاج التهديد؟ إن التبشير الديني نوع من التعليم الأخلاقي والإقناع السلوكي، فكيف تعلم أخلاقياً وتقنع سلوكياً وأنت تنتهج أكثر المواقف الأخلاقية ضعفاً، ألا وهو موقف التخويف، وأشد الأدوات السلوكية سوءاً، ألا وهو سلوك التهديد والوعيد؟
لقد اتجه الوعظ والتبشير الديني في معظم أنحاء العالم لذلك التحببي الشفيق الرحيم، فالتبشير المسيحي، الخاص بالكثير من طوائفه، ينحو للتأكيد على محبة الرب للبشر وإن لم يحبوه، ورحمته بهم وإن جحدوه. في حين ينحو التبشير الإسلامي، الخاص بالكثير من طوائفه، للتأكيد على أن كل مسلم ذائق النار ولو إلى حين، وأن العقاب يكون أحياناً لأهون الأسباب، وأنك مهما كنت إنساناً شفيقاً أخلاقياً ملتزماً حسن التعامل مع الآخرين، فإن عدم الدخول في الدين كاف لإيصالك النار أبد الدهر.
كيف تستقيم الأمور الفكرية والنفسية هذه كلها مع بعضها؟ كيف نسوق لرحمة الدين تهديداً بالتعذيب والحرق؟ كيف ندفع لإقناع الناس بعقيدة عن طريق التأكيد بعدم وجود مساحة للاقتناع أصلاً، إما الإيمان التام أو التعذيب الزؤام؟ أي منطق هذا الذي يحكمنا، وأي توجه نفسي وذهني هذا الذي نتبنى لتسويق آرائنا ومعتقداتنا؟
لا أتصور أن لأداة أهمية عندنا مثل تلك التي للعصا والمتمثلة في أي أداة مادية أو نفسية تهديدية. وعلى أن الأبحاث تدل بالأرقام* أن المجتمعات التي تقل عندها العقوبات العنيفة وصولاً لإلغاء عقوبة الإعدام، هي مجتمعات تقل فيها الجرائم ويستقر فيها المجتمع لحد كبير، في حين ترتفع نسبة الجرائم في المجتمعات قهرية العقوبات التي تقر بعقوبة الإعدام، إلا أنه لا تزال قناعاتنا راسخة بأن العنف يحقق السلام، وأن القتل كعقوبة سيقلل من جرائم القتل كممارسة، وأن التهديد والوعيد والإذلال ستخلق مجتمعات مستقرة آمنة وهادئة، كيف؟ هو كده!
٭ دراسة نشرتها «آمنستي» حول موضوع الإعدام، ومنها يمكن التوصل لمزيد من الدراسات حول الموضوع.