سوبر بشر
كنت قد كتبت سابقاً حول فرضية امتداد عمر الإنسان لما قد يصل إلى المئتي سنة. وكل تداعيات تحقق مثل هذه الفرضية، مثل التغيرات البيئية والمناخية المصاحبة، تغير المستوى المعيشي للفرد، وتغير تقسيم المراحل العمرية للإنسان، وتغير علاقات الفرد بأسرته التي قد تكون كلها وإلى خامس جيل منها حية يتعايش بعضها مع بعض، واختفاء بعض أهم القيم التي تميز الإنسانية، مثل قيمة الحب والزواج، حيث -يتنبأ العلماء- ستتعسر فكرة تعاشر الأفراد في منظومة اجتماعية توحدهم لما يزيد عن المئة وخمسين سنة، مما سيجعل من فكرة الحب الأبدي والزواج مجرد فكرة أسطورية.
إلا أنه مع تزايد الحوارات العلمية حول إمكانية تطوير بيولوجية الإنسان ليتمكن من أن يحيا لمدد أطول ولربما ليتمكن من الخلود، بدأ الموضوع يأخذ أبعاداً مختلفة. قبل كل شيء، أن تصل التكنولوجيا الطبية لدرجة من التطور تمكنها من تخليد جسد الإنسان، فهذه بحد ذاتها «إشكالية رائعة» ستحتاج إلى منظومة قيمية وأخلاقية جديدة تماماً، منظومة ستضطر للتعامل مع الإنسان ليس فقط على أنه خالد، لكن كذلك على أنه خارق، إنسان قادر على تخليد جسده كما هو قادر على تغيير التركيبات الجينية لإنتاج نظراء له أفضل قدرات وأقوى جسداً وعقلاً. في تلك اللحظة من الزمن، سنحتاج إلى قوانين جديدة ومنظومة أخلاقية متطورة تستطيع أن تتعامل مع وتحكم إرادتنا الإنسانية الخارقة لتبقيها قيد السيطرة، وأن تتعامل كذلك مع نتاج هذه الإرادة والمتمثل في إنتاج بشر «سوبر» لا تباين طبيعي بيولوجي يفرق بينهم، وإنما كل ما يميزهم هو إمكاناتهم المالية التي ستمكنهم من شراء كل صفة مرغوبة يمكن تحضيرها في المعمل. حينها، ستظهر كذلك مجموعة جديدة من الأسئلة الفلسفية المؤثرة في تشكيل منظومتنا المبدئية مثل: ماذا ستكون معايير القوة والذكاء والجمال؟ كيف ستتم المفاضلة بين البشر موهباتياً وقدراتياً؟ من سيحدد كل ذلك وكيف؟
إلا أن المعضلة الحقيقية، كما أتصورها، ستكون داخلية أكثر منها خارجية، حين يتمدد ويتمطط الوعي الإنساني قسراً ليتحول من ذاك المعد لاستيعاب ثمانين سنة من التجارب والخبرات، إلى آخر لا نهائي تتراكم فيه التجارب والخبرات والأفراح والأحزان والمآسي والآلام لأمد طويل أو لربما بشكل أبدي. كيف سيبدو شكل ذلك الإنسان وكيف ستكون روحه وحالته النفسية إذا ما عاش مئتي سنة من الأحزان والآلام على سبيل المثال؟ كيف سيطور هذا الإنسان ملكاته وكيف سيقوي حكمته والزمن الممتد سيباشره بتجربة بعد الأخرى، أحياناً بنتائج متناقضة وأحياناً بنتائج مفاجئة وأحياناً بنتائج لا منطقية ولا يمكن تصديقها؟ لا بد وأن يتوحش مثل هذا الإنسان، لا بد وأن يفقد قدرته على التعاطف مع الآلام والأحزان وعلى التواصل الشعوري مع غيره من البشر بعد أن يحيا ليشهد بأم عيني عمره اللانهائي تناقض بني جنسه وغرابتهم وتضارب تجاربهم ولا منطقية نتائج الحياة هذه التي لا عدالة فيها لا في القريب العاجل ولا في البعيد المؤجل.
إن أحد أهم أسباب ترسيخ الثوابت عند البشر هو محدودية زمن حيواتهم، حيث إن تغير الثوابت هي عملية بطيئة جداً على مدى الثمانين سنة، التي هي معدل عمر الإنسان حالياً، مما يجعل الاعتقاد بالثوابت والإيمان بلانهائيتها ممكناً، لكن ماذا سيحدث حين يمتد العمر بالإنسان طويلاً، أو أبدياً، ليشهد بنفسه على استحالة ثبات أي مفهوم أو مبدأ أو معتقد، وليرى بأم عينيه وليتأكد بكل خلية من عقله على حقيقة تغير كل ثابت وتناقض كل متسق وإمكانية كل مستحيل؟ هل سيستطيع جنسنا الذي يعتاش على اعتقاده بصحة فهمه وإطلاق الحق الذي يؤمن به أن يتحمل تحطم هذه القاعدة الخيالية التي يرتكز عليها إبان زمن عمره القصير؟ هل سيتحمل كل هذه التغيرات المستمرة والتحولات المبدئية والتبدلات اللانهائية للحقيقة والواقع والصح والخطأ؟ إنما نحن وعينا، ووعينا هو منظومة مبادئ وأخلاق ومعتقدات نعيش عليها فترتنا الزمنية المحدودة في هذه الدنيا، مستريحين في ظل إيماننا المطلق بصحة هذه المنظومة، أو على الأقل بعدم حاجتنا لمواجهة متناقضاتها إبان حياتنا. فكيف سنكون حين يفرض علينا الزمن مواجهات مستمرة مع أخطائنا وتناقضاتنا، وحين يقسرنا على القبول بالحقيقة المرة العسرة لاستحالة وجود ثابت أو حقيقة أو حق مطلق؟ هل سنبقى نحن البشر أم نصبح كائناً مختلفاً تماماً؟ ولماذا تقلقني هذه الفكرة وعمري النسبي لن يفرض عليّ التعامل مع تداعياتها؟