سنام
كان هذا المقال سيكون عن القسوة، عن الاستهانة بالحياة، عن غياب الرحمة في ظل الجشع من أجل المزيد من المتابعين والمزيد من “اللايكات”، عن هبوط نوعية الكلمة ونوعية الصورة بعد أن فتحت وسائل التواصل الاجتماعي باب الشهرة للجميع دون مقاييس أو مؤهلات، إلا أن كل هذه السلبية غيبتها قصص أظهرتها وسائل التواصل ذاتها، لتعلي الرحمة، وترتقي بالكلمة والصورة وتعيد لنا الأمل في الغريزة الإنسانية المقدِسة للحياة.
ففي حين كان هناك من ينشر صورة لكلبه المتوفى في قعر حمام سباحته متبوعاً بتعليقات ساخرة هابطة، كانت هناك مجموعة شبابية رحيمة تحاول إنقاذ ناقة من أيدي أصحابها الذين رموها لظروف عصيبة حتى سقطت فريسة آلام ومعاناة زادت من حدتها أجواء الكويت الملتهبة مما دفع بأصحابها الى الاقتراب من قرار إنهاء حياتها. دفع هؤلاء الشباب من حر مالهم القليل ليشتروا الناقة، واستأجروا رافعة لنقلها إلى مكان آمن، وتعاونوا مع أطباء شباب لمعالجتها، فانتشرت صور “سنام”، الاسم الذي أطلقوه على الناقة، وهي موصولة بأنبوب مغذٍّ، ثم وهي ترتع على بقعة خضراء، وقد تحسنت صحتها، وتوردت شفتاها بعد أن كتب الله لها على أيدي هؤلاء الرحماء حياة جديدة.
ستموت هذه الناقة في يوم كما سنموت جميعاً، لكن الذي سيحيا ويستمر من جهد الشباب هذا هو مفهوم الرحمة وتقديس الحياة اللذان قدمهما هؤلاء الشباب كصورة عميقة بجهدهم البسيط. جاءت تعليقات البعض لتستهين بجهد الشباب المبذول لإنقاذ ناقة في وقت يموت فيه الأطفال تحت ظروف مريعة في أنحاء الأرض المختلفة. لا يعلم هؤلاء اللوامون أن الرحمة واحدة، أن غريزة احترام الحياة لا تتجزأ، وأن الآخر قادر على التعاطف مع حيوان يتألم، أو يحزن على حيوان يموت، هو غير قادر على التفاعل مع البشر، غير متمكن من اختبار مشاعر الرحمة والألم والحزن تجاه أي جنس كان.
وفي حادثة منفصلة لطيفة، تفاعل الناس مع حيوان الراكون الذي ضُبط وهو يتسلق ناطحة سحاب في ولاية منيسوتا. تابع الناس الراكون الشجاع عبر وسائل التواصل، وتحمسوا مع محاولات إنقاذه التي لم تنجح حيث كان الراكون يهرب من مساعديه مستمراً في تسلق هذا المبنى الشاهق. بقيت الناس تراقبه وتهلل له حتى وصل الى سطح المبنى آمناً، حيث كان هناك طعام ينتظره، وحيث أمسك به المختصون وأعادوه الى بيئته الطبيعية في موقع مجهول لم يتم الإعلان عنه لضمان أمن هذا الحيوان الصغير الشجاع.
أن تتفاعل ولاية كاملة، بل بلد كامل، مع حيوان صغير تتأرجح حياته بين أدوار مبنى شاهق، أن يبذل شباب مغمورون من مالهم ووقتهم لإنقاذ ناقة مريضة، أن يقفز زوجي ذات يوم بملابسه في حمام سباحة بيتنا لينقذ ثلاث قطط صغيرة وضعها صبية صغار في قفص ملؤوه تراباً وأحجاراً ليثقل عميقاً في الماء، أن تركض ابنة عمتي الناشطة في حقوق الحيوان ذات يوم من أيام أغسطس الحارق في سنة ماضية بين أروقة جامعة كيفان لتنقذ عددا من القطط حديثة الولادة الراقدة بإعياء على بلاط الجامعة الحارق، أن يجد أي إنسان في قلبه رحمة، في نفسه رأفة، في أذنه صوتاً يخبره بقدسية الحياة وواجبه تجاهها أياً كانت نوعية هذه الحياة، أياً كان حجمها أو أهميتها، فيبذل جهداً أو يعلي صوتاً أو حتى يختبر حزناً ويستشعر معاناة، هذا ما يعيد لنا الأمل في جنسنا البشري. أن تجد في نفسك ألماً لألم حيوان، أن تجد في روحك رحمة تجاه روح أخرى تتعذب، تلك هي المشاعر ذاتها التي ستحركك تجاه بني جنسك، تجاه إنسان يتعذب، طفل يجوع، لاجئة تغرق وهي تقطع البحر، هارب يعدو ليقطع حدود النار. هي المشاعر ذاتها ومصدرها المصدر ذاته، إن فقدنا إحساسنا بها تجاه أي روح، أي حياة، فقدناها كلها تجاه كل روح وكل حياة. رحمة الله على روح هذا الكلب البريء، مستلقياً بجسده الضئيل أسفل المياه، رحمة الله على قلب صاحبه وعلى إنسانيته، عله يجدهما قبل فوات الأوان.