سكريات فكرية
ونحن في لب الشهر الفضيل، نحتاج جميعاً لوقفة مع النفس، وقفة حقيقية شجاعة تشع في وجه الظلام الذي نعيش فيه منذ زمن. أكثر من ظاهرة حولنا، بعضها واضح والآخر مدسوس، تشير جميعها إلى عمق المشكلة التي نعيشها، لخطورتها وجدية تهديدها لكياننا المجتمعي، فمثلاً، عندما تتطارح النقاشات الدينية بيننا، تهيج الأنفس، وترتفع الغضبات، فقليلاً ما نجد من يقبل بيننا الرأي الآخر المختلف، والذي لا يقابل بالحجة ولكن بالتهديد والوعيد الدنيوي والأخروي. تلك الظاهرة لا تشير فقط إلى ركاكة فهمنا لمنطق الحرية في مجتمعاتنا، ولكنها كذلك تدلل على دواخلنا النفسية المرتبكة، فالإنسان الواثق المرتاح مع منطقه لا يثور عندما يهاجمه الآخرون، لا يحنق بل يشفق إيماناً منه برسوخ مبادئه، ولكن الملاحظ أن مجتمعنا يثور ثم يدافع قبل حتى أن يتفكر في النقد المقدم، والأخطر من هذا، هو مجتمع يتجنب المعلومة التي قد تؤجج أفكاره تفادياً منه لمشقة التفكير وآلام الشكوك وعناء التقرير السليم. في حواري معها أخبرتني أنها لا تقرأ ما يخالف معتقداتها، لا تود الدخول في معركة فكرية تؤذي سكينتها الداخلية وإن كانت سكينة الجهل، أقرت هي أن بعض ما تعتقده قد يكون غير منطقي، ولكنها ترغب في الاحتفاظ به رغبتها الاحتفاظ بسعادتها الناتجة عن استقرار أفكارها في موقع أوحد. احترمت أنا رغبتها، فلا أؤذيها بطرح فكرة جديدة ولا مناقشتها في مسلماتها مهما ثبت في رأيي سذاجتها. تلك الحال بين فردين، أنا وصديقة لي، ولكن، كيف لو كانت هذه حال مجتمع بأكمله؟ إلى أين يصل مجتمع يتقي “أذى” المعلومة مهما بلغت أهميتها أو حقيقتها؟ تحضرني هذه الفكرة في الشهر الفضيل حيث تدور معظم الحوارات حول المفاهيم الدينية، حوارات تتكرر سنة بعد سنة بلا أي محاولة لمجادلة الفكرة أو مناقشة منطقها. نجمّل نحن التاريخ بل نزوّره حتى يقول ما نتمنى لا ما كان وحصل، نغلق نحن الكتب على ما فيها حتى لا نضطر للتفنيد ونقسر على التعامل مع ما جاء فيها مما يتنافى وواقعنا الحالي. ننهي النقاشات ونبترها حتى لا تصل بنا إلى مرحلة “خطرة” نعمل فيها عقولنا ونحكم فيها بأنفسنا فنتحمل مسؤولية الفكرة والقرار. نهرب نحن دوماً من الفكرة ومن التاريخ ومن الواقع، وعوضاً عن أن نقر أن الماضي كانت له ظروف أقسرت أفكاره وعليه فإن الحاضر له ظروف تتطلب مراجعة وتنقيح هذه الأفكار، نهاجم نحن ونكفر ثم نغلق الحوار على تحريم التفكير ومنع النقاش، وننتهي إلى الموقع الأفضل الذي نحتمي فيه من الوقائع والأفكار: الخطوط الحمر التي يجب ألا نتعداها ولا نتحداها، نقف خلفها ونرميها في وجه من يجرؤ، فينتهي الحوار وتغلق القنوات، ونقف، مكانك سر. في هذا الشهر الفضيل تحديداً، ومع كثرة ما نسمع من حوارات ونشاهد من مسلسلات دينية تحكي التاريخ الذي حفظناه وخبرناه، نحتاج فعلاً أن نتحدى أنفسنا، احتراماً للدين وللشهر الفضيل، نحتاج للشجاعة في الطرح والإقدام في التحليل والمبادرة في التعديل. لن نتقدم خطوة إذا ما قيدنا أنفسنا بأنفسنا بقيود الخطوط الحمر، نتقدم فقط متى ما واجهنا الحقائق وفرشنا التاريخ وافترشنا الأفكار وتحدينا النفوس، هنا نتطور، وترتقي أخلاقنا بنا، وتقوى نفوسنا بالدين الذي نتواجه من خلاله بالأفكار والأحداث عوضاً عن الهروب الذي يغيبنا في ظلام الجهل. ذاك ما يستحق منا الشهر الفضيل، شهر لا يدعو للعبادة فقط، بل لتطهير العقل والنفس كما تطهير المعدة، من كل رواسب و”سكريات” فكرية تنتشي بها النفس ويغيب بها العقل فيُسلب القرار وتُسلم القيادة. من يسلم قيادته لغيره فقد نفسه وكيانه، وفي هذا الشهر الفضيل فرصة لاستعادة النفس والكيان واستلام دفة القيادة الشخصية والتي هي حق لكل إنسان.
“آخر شي”: فكرة بسيطة نبدأ بها، لمَ لا تنطوي دعاية بيت التمويل الكويتي والتي تحكي عن عائلة جميلة تتبادل أفكاراً وأفعالاً اجتماعية راقية دافئة تنتهي بجملة “أحلى شبكة اجتماعية” مظهرة الأسرة جالسة على طاولة الطعام استعداداً للإفطار، على ما يبدو، على أي امرأة في الإعلان؟ الأسرة تتعامل مع بعض دون وجود أي امرأة، لتنتهي جالسة تأكل، أطفالا ورجالا، كذلك دون أي امرأة، هل الأسر المتدينة الجديدة لا نساء فيها؟