سعيد وسلمى
رغم كل انبهارنا بالموقف الفلسطيني الغزاوي الصامد وبالحراك العالمي الذي انقلب على حكوماته تجاه غزة، إلا أن انكساراتنا الشخصية لا تفارقنا أبداً منذ بداية العدوان الجديد الذي انتهك كل القوانين العالمية والقواعد الحربية والإنسانية بل وحتى الغرائزية البحتة. بين اليوم والآخر، وبين الفيديوهات والصور الحارقة التي انطبعت في ذاكرتنا للأبد، أجده جالساً بتداع على المكتب، مرخياً رأسه على كفه، يهمهم بخفوت وحرقة، وحين أسأل السؤال السخيف، ما بك؟ دائماً الإجابة تكون، وما بي؟ قلة حيلة وخذلان، هذا هو ما بي.
في ذلك اليوم عرفت منه أنه وصل لهذا الفيديو الموجه لأب ينادي على أبنائه الراقدين تحت الأنقاض، يصيح بهم فيم هو مصخياً أذنه على الأرض المتربة: “يابا، مش سامعكوا يابا.” يحاول أن يقترب ماداً رقبته تحت الأنقاض الني تبدو متأرجحة بخطورة، هاتفاً بأسمائهم الواحد تلو الآخر بتكرار حارق لمتأمل فاقد الأمل: “سلمي، سلمى يابا، سعيد، سعيد، سعيد، سعيد، يابا، يابا، يابا، سعيد، سعيد، يابا، سعيد،” لتأخذه غضبة بكاء أليمة، ضارباً الاسمنت والطابوق من حوله بمطرقة في يده، متلعثماً بكلمات ما أمكن التعرف عليها سوى أنها تنطوي على ما يبدو أنه تعزير للأبناء الذين لا يردون ولسعيد الذي لم يحم سلمى.
منذ بداية هذه الكارثة الإنسانية وأنا أقرأ لها صبغتين على وجه كل إنسان “حقيقي” أعرفه، صبغة عامة تنطوي على شعور بالجزع من هول ما يحدث، مترافقاً مع شعور بالخذلان العربي والإسلامي والإنساني ثم بالكراهية الساطعة والاحتقار الحاد للحكومات المتخاذلة ثم بالغضب الباهر تجاه عالم يقف متفرجاً فيم الأطفال تُقصف جمعياً بالقنابل القاتلة. ثم هناك الصبغة الخاصة، صبغة تنطوي على جزع شخصي غرائزي بشري المنحى يتشكل من خلال تخيل (أو مقاومة تخيل في الواقع) إمكانية أن يحدث ذلك للشخص ذاته، أن يكون هذا المصاب مصابه، وتلك الكارثة من نصيبه، ففي النهاية، نحن كلنا بشر، وأجسادنا ومشاعرنا وآلامنا ومخاوفنا هي قواسم مشتركة نستطيع من خلال تشاركنا بها أن نتشارك الشعور بالتجربة والتعاطف معها والارتعاب التام منها. الأمهات لا تستطيع أن تتخيل فقدان الأبناء بالجملة ودفنهم جماعياً، مجرد طباعة هذه الكلمات على شاشة الكمبيوتر هي عملية مرعبة حارقة، والآباء غير قادرين على استيعاب هذه الكمية من العجز عن حماية الأسرة والدفاع عنها، والأطفال غير متمكنين من فهم أن تكون في الحياة كل هذه الكمية من العنف والموت المشهودين في تقافز صور أقرانهم المرتجفين المخضبين بالدماء والأتربة أو الملفوفين بالبياض الأحمر على شاشات تلفوناتهم أو “الآيبادات” المكلفة التي دللهم أهلهم بشرائها. كلنا نشهد الأحداث عبر الشاشات الزجاجية وكلنا مدفوعين غرائزياً لتخيل وقع الكارثة بحكم تشاركنا البشري بالجسد والتجربة وكلنا نتسائل، من أين لهؤلاء الغزاويين بالصبر والجلد أمام هكذا نكبات دقت باب كل بيت؟
كانت هذه هي لحظة تلك الصبغة الخاصة على وجه وروح زوجي، لحظة التواصل بالخيال تشاركاً بالتجربة والمشاعر الإنسانية والتي دفعت به أن وضع نفسه مكان هذا الأب المفجوع، غير القادر على انتشال أبنائه من تحت الركام، رجل يقف مصطبغاً بالدم وفي يده مطرقة، مجرد مطرقة صغيرة أمام تل هائل من الاسمنت والحديد. لا أتصور أن طرق خيال زوجي في يوم أن يبحث عنا أسفل بيته المقصوف، أن يصرخ علينا فلا نستجيب، أن يكون أحدنا أو كلنا في خطر وهو غير قادر على حمايته، أن يغطينا تراب هو غير قادر على رفعه، أن نطلق نداءات هو غير قادر على تلبيتها. إلا أن الخطر اقترب كثيراً، اقترب نفسياً ومعنوياً وهو يشاهد الآباء المنكوبين، يدفنون الزوجات والأبناء جماعات، ليصل إلى فيديو اليوم، فيديو الأب العاجز سوى من مطرقة في يديه، لربما في مشهد كوميدي أسود، مقدم على هدم جبل من الحديد والطابوق والاسمنت بهذه المطرقة ولو كان وحيداً، ولو قضى عمره كله ينتشلهم الواحد تلو الآخر، سعيد وسلمى.
أعرف تفاصيل الصورة التي أتت في مخيلة زوجي ولا أجرؤ على تخيلها، لا أستطيع أن أشاركه لحظة عذابها، فهي فوق المستطاع. لكن هذه الصورة التي لا نقوى على مجرد تخيلها، هي واقع حياة لآلاف الآباء والأمهات هناك في غزة الحزينة، غزة الولاّدة التي لا يليق بها سوى صرخات فرح صغارها. هذا الرعب المكثف، بأكثر صوره بشاعة وترويعاً، هو الآن حقيقة واقعة لأسر مثل أسرنا، يسكنون مبان مثل مبانينا، يذهب صغارهم لمدارس حال صغارنا، لديهم تطلعات وأماني تجاه أبنائهم كما تطلعاتنا وأمانينا، لفلذات أكبادهم ذات ضحكات وآمال وغضبات فلذات أكبادنا، نحن صور طبق الأصل في حالتنا الإنسانية، إلا أننا نتباين كثيراً في أقدارنا الحياتية، وبين هذا التطابق والتباين في المشاعر والمصائر تنكوي ضمائرنا بنار العجز وتفزع أرواحنا من ذاك المصير غير البعيد عن أي منا.
هل كنا نحتاج لأن نرى كل هذا العذاب والدماء لنشعر؟