تمر عليهن أشكال وأنواع من السيدات، يدخلن أفواجا وهن يتسامرن حول قصة ما، يقفن أمام المرآة ويخرجن أدوات زينة معقدة مذهلة التأثير
سريع الذوبان
تدور بسرعة كبيرة في محيطها، تمسح البقع هنا وترش المواد المطهرة هناك، تخطو خطوات قصيرة سريعة خلف السيدات الخارجات من المكان يحملن أكياسهن المثقلة بمتع التسوق عل أحدهن تمد كفها ببواق تسوقها.
أحيانا كثيرة يحالفها الحظ، فتتحصل على قطع نقدية قليلة أو حتى ورقة نقدية كاملة، لتدسها بسرعة وخبرة في جيبها الرمادي الأمامي، لتعود لدورانها السريع المذهل ولارتداء ابتسامتها البسيطة المغتصبة؛ المغتصبة من عمق آلام الدنيا وهمومها وأحمالها. تعيش أيامها في هذا الحيز، الذي مهما اتسع لا بد أن يضيق بالنفس البشرية، حيز أحيانا يكون فاخر الفرش الرخامي أو متواضع التبليط السيراميكي، تصطف فيه المراحيض لتقضي صاحبات الحظ الأفضل حاجاتهن الطبيعية فيه، ولتنظف هي بعدهن المكان في صورة من أبلغ صور الحياة وأكثرها مباشرة: الميسورون تتيسر أمورهم، والفقراء ينظفون بقايا الأمور، الميسورون يتخففون والفقراء يثقلون بمخلفاتهم، إنها الحياة التي لا عدالة فيها.
أفكر فيهن كثيرا هؤلاء العاملات في الحمامات العمومية (لا أدري عن وضع، ولا أشمل، الحمامات الرجالية) اللواتي يقضين اليوم كله على كرسي بلاستيكي في أحد زوايا هذه الغرفة التي لا بد وأن تكون، مهما تعاظم تنظيفها وتطهيرها، ملجأ للبكتيريا والجراثيم.
دقيقة بعد دقيقة؛ ساعة بعد ساعة؛ تغيب شمس وتظهر شمس؛ يوم بعد يوم؛ وهن في هذه الغرف السيراميكية الباهتة، تمر عليهن أشكال وأنواع من السيدات، يدخلن أفواجا وهن يتسامرن حول قصة ما، يقفن أمام المرآة ويخرجن أدوات زينة معقدة مذهلة التأثير؛ هذه تبدل ثياب طفلتها وتلك تتحدث على هاتفها ثوان أو دقائق ليغادرن مخلفات روائح عطرة في الواقع، تتضارب في معناها ومغزاها مع المساحة وهدفها.
عديدات تدخلن وتخرجن، تمررن بسرعة على “العاملة الرمادية”، التي كثيرا ما يوحدها “يونيفورمها” وملامحها ووظيفتها مع زميلاتها، تبدو كلهن امرأة واحدة مكررة، تتوزع نسخها على هذه الغرف الموحشة المعزولة، حتى ننسى أنهن سيدات عدة بقصص عدة وحيوات عدة، الفرق بيننا وبينهن: ضربة حظ.
الحق أقول إن معظم المستخدمات لدورات المياه، الحديث هنا عن عالمنا العربي تحديدا، في الغالب يكن لطيفات، يمددن الأيادي بما يتيسر من قطع نقدية، أحيانا يعطين العاملة بقية وجبة أو علبة عصير. للحظات قصيرة، نتذكر آدميتهن، ثم نخرج لفساحة الخارج فننشغل بهمومنا واهتماماتنا، وننساهن، وينساهن الزمن كذلك هناك على أطراف المغاسل وفوق رؤوس المراحيض، لا يتغير بهن حال، لا ينصفهن زمن.
إلا أن الإحسان، بشكليه النفسي والفعلي، ليس هو المشكلة تحديدا، التعاطف عندنا في عالمنا العربي ولا أروع أو أدفئ منه، لكنه مؤقت، سريع الذوبان، سرعان ما ننسى مستحقيه بضغوط أعمالنا وهمومنا الشخصية وإيماننا الذي لا يمكن إنكاره بالتمايز الطبقي. تعاطفنا شاعري لكنه غير منطقي، فنحن نتعامل مع الأعراض لا المرض، من خلال مشاعرنا لا بالتدخل الجراحي المطلوب، بإيمان أن “الناس طبقات” لا “كأسنان المشط”.
حين كتبت أشير لهذه الظاهرة على حسابي على موقع تويتر، أشارت إحدى المغردات إلى غيابها في الدول الغربية والشرق آسيوية، حيث لا توجد عاملات مقيمات في دورات المياه (لربما إلا في الأماكن الفاخرة المخملية كما أشار مغرد آخر). هناك توجد أوقات محددة للتنظيف تأتي فيها العاملة لتنهي مهمتها وتغادر، وتكون مهمة إبقاء المساحة نظيفة على مدار اليوم هي للمستخدمات لهذه المساحة، وهي مهمة يأخذنها عادة على أعتاقهن بكل أخلاقية وشعور بالواجب وبخالص الرضا والالتزام.
في خارج الشرق الأوسط، وعلى الأغلب وبلا تعميم، لا تترك المستخدمات بقايا المناديل الورقية على المغاسل، لا يرمين مخلفاتهن وقد تدلى نصفها خارج أكياس القمامة، والأهم، لا يغرقن المكان بالمياه اعتقادا منهن أنهن يطهرن المساحة استعدادا لاستعمالها، وتلك هي المشكلة الأكبر والأثقل بالنسبة لهؤلاء العاملات؛ فبخلاف أن في ذلك إهدار شديد للمياه، يغرق هذا التصرف المساحة كاملة بمياه غير نظيفة في الغالب، وينهك العاملة بضرورة تنشيفها بعد كل مستخدمة حتى تستطيع تاليتها استخدام ذات المساحة.
في الغرب وأقصى الشرق، كثير من الحمامات العامة تكون بمبالغ مالية كذلك، تدفع باوند أو إثنين مثلا لدخول الحمام، هذا الإجراء أولا يوفر أجرة عاملة (أو عامل) التنظيف التي تأتي في ساعات محددة لإتمام عملها، وثانيا يشعر المستخدمة بملكيتها المؤقتة للمساحة، بمسؤوليتها تجاهها، وعليه بضرورة إبقائها على نظافتها احتراما للمستخدمة القادمة التي ستدفع لذات الخدمة التي تمتعت هي للتو بها.
الاستخدام العشوائي المهمل لدورات المياه العمومية اعتمادا على هذه المقيمة فيه ليل نهار هو انعكاس جلي لفلسفتنا في الحياة ليس فقط من حيث ترسخ الشعور بالطبقية وقبول مثل هذه المشاهد على أنها طبيعية، ولكن كذلك من حيث ترسخ شعور أن العام ليس ملكنا، أن الحيز الخارجي من بلداننا لا ينتمي لنا، فترانا نعامل الشوارع بقسوة والأماكن العامة بفظاظة والمرافق المتاحة بشيء من الاستغلال، فتلك ليست لنا، نستهلكها قدر ما نستطيع ونتركها لملاكها يصلحونها.
هذه الجزئية، تعكس ظاهرة خطرة لعدم شعور الإنسان العربي بامتلاكه المساحة العامة من بلده، كل ما يملكه هو حيز بيته، أما خارجه فهو ليس له، بلده بشوارعه ومرافقه لا يخصه، وهذا الشعور بالانفصال هو أخطر وأمرّ ما يحكم علاقة الإنسان العربي بأرضه. لو أننا تملكنا بلداننا، كنا سنحرص على جمالها ونظافتها، ولو أننا حرصنا، كنا سنستخدم طاقات العاملات في أعمال أجدى نفعا، أكثر إنسانية، وأقل قمعا نفسيا ومعنويا، ولو أننا فعلنا، كنا ساهمنا في تعديل كفة الحياة الباردة الظالمة ولو بأقل القليل، كنا سنكون أفضل.