"بالوساطة يصبح كل شيء ممكنا، وبها أيضا يصبح كل شيء مستحيلا ".
سراديب
كانت تحدثني بإرهاق عن إجراءات في إحدى مؤسسات الدولة كانت مضطرة لإنجازها، بصوت غاضب منخفض قالت “هذه البلدان، كل شيء فيها ممكن، كل شيء فيها مستحيل”. أخذتني هذه الجملة وأنا أفكر في تلك القوة السردابية الرهيبة الراقدة أسفل بلداننا العربية بأكملها، ربما في منطقة الخليج بشكل واضح ومؤثر بسبب من عشائرية طباع سكانها، إلا أنها في الواقع قوة كامنة في كل زوايا حيواتنا الشرق أوسطية، وهي قوة بلا شك إعجازية تصنع الشيء وضده في ذات الوقت (رغم إثبات العلم استحالة وجود الأضداد معا في زمن واحد) حيث تستحضر هذه القوة الممكن والمستحيل لذات الحالة وفي ذات الزمن. الوساطة ليست اختراعا شرق أوسطيا ولا هي حكر عليه بكل تأكيد، إلا أنها عنيفة، مرضية، فواحة العفن في منطقتنا، تحوم بأبخرتها اللزجة فوق كل تفاصيل حياتنا. في الظاهر، دولنا دول مدنية، فيها مؤسسات ووزارات، بل والبعض منها فيه برلمانات ومجالس شعب وشورى، أما في الباطن، تحت الأرض، في السراديب، تتشعب علاقات خفية عنكبوتية، تحكم كل ما يدور في دولنا، وتحرك فيها من أكبر قرار إلى أصغر توقيع على أقل ورقة.
بالوساطة يصبح كل شيء ممكنا، وبها أيضا يصبح كل شيء مستحيلا كما قالت محدثتي المتألمة. في بعض دولنا الشرق أوسطية، يمكن أن يكون للقانون سلطة نافذة قوية، يمكن أن يكون لها وجه مدني جميل منظم، إلا أنه دائما ما يكون هناك، في ذات الوقت ولذات الحالة، علاقات نافذة قوية لا قانونية كذلك، مساوية بالقوة (إن لم تكن أشد وأعنف) ومتضادة بالإتجاه. كل شيء مستحيل يصبح ممكنا إذا ما كنت تعرف الشخص الصحيح في المكان الصحيح، وكل شيء ممكن يصبح مستحيلا إذا ما كنت تملك العلاقات الصحيحة في شبكتها الصحيحة. لا يمكن لأي منا أن يكون خاليا من قصص رأى غبنها بأم عينية وسمع قهرها بذات أذنية وشهد نتائجها الوخيمة بضميره الذي إضطر، ثم اعتاد، على تنويمه المستمر بعقاقير الخوف والمشي جنب الحائط. كل منا يملك قصة، قصص كثيرة في الواقع، وكل منا لديه مبرر لربط لسانه، مبررات كثيرة في الواقع، أهمها وأخطرها هو أن كل واحد منا سيحتاج لمثل هذه العلاقة السردابية في يوم ما، لذا هو لا يستطيع أن ينهى عن خلق هو يدري أنه سيأتي بمثله، مع الإعتذار لأبي الأسود الدؤلي. في دولنا، “النفخ في الصافرة” والإشارة للممارسة الفاسدة هي ليست خطرا محدقا فقط، من حيث أنها قد تعرضك لأذى سكان السراديب الأقوياء، إنما الأسوء هو أنها قد تعرضك لغضبهم وتخرجك خارج دائرة رضاهم، فلا أنت غيرت من شيء في مجتمع تصرخ فيه وحدك ولا استفدت من وساطة ستحتاجها قريبا جدا.
ونحن سنحتاج الوساطات بلا أدنى شك، لأن مؤسسات دولنا العربية الضعيفة غير موعزة بالأمان، مما يدفع بنا لأن نسعى للحصول على هذا الأمان من خلال المؤسسات الإجتماعية الأخرى كالأسرة والقبيلة والطائفة وغيرها من المؤسسات التي ما عاد لها نفوذ في الدول المدنية الحقيقية ذات القوانين المستتبة الصارمة. هذا، وليس في العموم من صالح حكوماتنا إلغاء نظام الوساطات وإحقاق الحق وتفعيل المؤسسات المدنية، فإن فعلوا، فمن يمسك بعراقيبنا؟ وكيف سيتم التحكم في أصواتنا؟ وبأي الوسائل سيتم إخضاعنا؟ خذ عندك فسحة الحرية التي خلقتها وسائل التواصل الإجتماعي من حيث تحريرها للآراء وإطلاقها أصوات النقد مثلا، لا تسمع حديثا في دولنا يدور حول كيفية الإستفادة من هذا الإنعكاس الشعبي للآراء والتوجهات والإنتقادات، كل ما يدور من أحاديث حكومية هو حول كيفية إسكاتها سواء عن طريق التخويف أو الملاحقات أو في أفضل الحالات عن طريق التشريع المتزايد والمبالغ فيه. في محيطاتنا لابد أن تبقى المؤسسات المدنية ضعيفة والأصوات خفيضة، ولابد أن نبقى بحاجة للمؤسسات الإجتماعية القديمة، ولابد أن ترعى الدول هذه المؤسسات وتحافظ على كيانها بدعوى العادات والتقاليد والخصوصية، ولابد أن “نبوس الخشوم” كما نقول عندنا في منطقة الخليج، وهي جملة تعني “تقبيل الأنوف” إشارة الى نوع من التودد الذليل، ولابد أن تتعلق حيواتنا برضا الكبار عنا، وإلا كيف سيستمر نظام السراديب الغامض المظلم هذا؟ كيف سيبقى من هو فوق فوق ومن هو تحت تحت؟ كيف ستبقى الحقوق والمميزات بضاعة ملك من يدفع قيمتها لا من يستحقها؟
لا أعتقد أن هناك وباء يفتك أشد من وباء الوساطة، لم تر المجتمعات فسادا أخبث وأشد إضرارا من فسادها. تنتج الوساطة عن العشائرية وفي ذات الوقت هي تقويها، منتهية إلى الغياب التام لسلطة القانون والدولة المدنية. في حضور الواسطة يغيب الشعور بالعدالة، ويصبح الوضع “حارة كل من إيدو إلو” ليفصل بين الناس صلات الدم وعلاقات المعرفة وما تترتب عليها من مصالح عوضا عن القيم الإنسانية الحديثة المدنية العادلة التي تعزز قيمة عمل الإنسان وجهده لا اسمه وأمواله ومعارفه. الوساطة كآفة إنسانية هي بلا شك غير مقتصرة على منطقتنا، لكنها عندنا تتحول من آفة آخذة في الاختفاء مع تطور الجنس الإنساني إلى وباء مزمن لا طب أخلاقي أو فكري له. وإلى أن نتخلى عن تقديس روابط الدم، و”إسداء الخدمات” ونبدأ في “تسديد الحقوق”، إلى أن تصبح المبادئ وقيم العمل والاجتهاد أهم من الأسماء والمعارف والعلاقات، سنبقى دولا عشائرية رعوية، تحكمها عادات بشرية قديمة وتتحكم في إنتاجها مقاييس فاشلة. الوقت ليس في صالحنا، وبقية العالم لن يتنتظرنا.