سجوننا البشرية القاتلة
غريبة هي حبستنا البشرية داخل أجسادنا وعقولنا ومحيطاتنا، غريب هو قصور النظر والبصر والسمع، غريب هو تعطل الحواس إلا عن أقرب القريب إليها، فلا تكاد حواسنا القاصرة تتلمس أبعد مما يصل إليها، لا تسعى لفهم العالم، حسياً، روائحياً، مرئياً، سمعياً، مُذاقاً إلا إذا وصل برسالته القاصرة التمييزية إلى عقر دار الجسد الخاص بها. الرسالة المحايدة تتطلب أن نسعى لها بحواسنا، أما الرسالة العنصرية فهي التي تسعى إلينا، وهي عادة ما تصل بيسر وبلا سعي منا. الفهم المحايد للعالم يتطلب جهداً وعملاً واتساع أفق، أما الفهم التمييزي العنصري فلا أسهل ولا ألذ منه.
توالت هذه الأفكار حين أوقفني رجل محترم وأنا أتجول في أحد أسواق الكويت، سلم بتأدب معرفاً بنفسه وباهتمامه بما أكتب أو أقول، ليردف كل ذلك بنصيحة اعتدت تلقيها بأنواعها المختلفة وبدفء دوافعها ممن يستوقفني في الأماكن العامة أحياناً؛ ألا تأخذني حماستي وأن أنتبه جيداً لأنني «أغفل» عن كثير مما يدور حولي. دار الحوار السريع جداً حول موضوع عديمي الجنسية في الكويت. وعلى عادة مثل هذه الحوارات، كان ختامه مثالاً حول حالة كان محدثي «يعرفها شخصياً» ساقها ليثبت قلة معرفتي وضبابية المشهد أمامي. ابتسمت في وجهه شاكرة، وسألته: هذه الحالة التي تعرفها شكلت لديك كل منظورك للقضية؟ من هذه الحالة حكمتَ على مجتمع كامل يحيا بيننا بكل معاناته وآلامه على مدى الستين سنة الماضية؟ تنقلت الكلمات بيننا على عجالة، وافترقنا وأنا شاكرة بغصة ولربما وهو مستاء بلطف.
كيف تقنع إنساناً ألا يثق في حواسه، ألا يثق في ما يسمع ويرى في محيطه الصغير، وأن يخرج للمحيط الأكبر ليتلمسه بحواسه؟ كيف نخرج جميعنا، كبشر حبيسي أجسادنا وعقولنا المعجونة بالعنصريات والمبنية جينياً على الاعتقاد أنها وأصحابها مركز الكون، من فكرة أن كل شيء يحدث في هذا الكون له علاقة بنا شخصياً، مؤثراً ومتأثراً بنا؟ كلنا، لربما بلا استثناء، أطلقنا حكم ذات موقف صغير وحبيس عقولنا القاصرة ومحيطاتنا الصغيرة. نحن على هذه الدرجة من الغرور رغم تفاهة وجودنا على هذه الأرض، إلى حد أن نشكل أحكامنا وتقييمنا لظروف الحياة من حولنا على أساس وحول أجسادنا المسكينة ووجودنا المنمنم، أحياناً حتى على خلاف وتناقض مع الحقائق الكبيرة والأدلة الدامغة. معتقداتنا وأفكارنا التي رسخها الزمن ومحيطنا وثقتنا بأنفسنا واغترارنا بعقولنا واعتدادنا بحواسنا واستسلامنا لعنصرياتنا لا يمكن أن تترك مكاناً للحقيقة المخالفة وإن ظهرت، ولا يمكن أن تستسلم للواقع وإن سدت إثباتاته عين الشمس. هكذا نحن، حبيسو أجسادنا وعقولنا وغرورنا ووجودنا الوقتي المسكين على سطح هذه الأرض.
لكن يبقى هناك أمل في التغيير، وإن كان ثمن هذا التغيير عادة باهظاً جداً. ها هو العالم بعد قرن من الزمان يبدأ برؤية حقيقة الاحتلال الصهيوني، مراجعاً حقائق كان يرددها بجهل وتغييب وغباء غير غريبين كلهم على جنسنا البشري. اليوم، ومع فحش الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون، ومع الوحشية غير المسبوقة المتبدية من الاحتلال الصهيوني الكريه، بدأ الناس ينظرون في ما كانوا يجهلون، أو ما كانوا يكررون، أو ما كانوا يعتقدون. تبدت حقيقة أن لم يبع فلسطيني أرضه في يوم، أن لم يقاوم فلسطيني السلام في يوم، أن لم يسعَ فلسطيني للحرب والأذى في يوم. مشاهد غزة وقصص أصحابها لما قبل حرب الإبادة الحالية أخذتنا إلى حكاية إنسانية عادية، أصحابها كانوا يعيشون حياة صعبة جداً نعم، لكنها بشرية بكل ما للكلمة من معنى، حياة فيها أحلام وطموحات وآمال، حياة يبتغي أصحابها السلام والاستقرار، حياة تتكون فيها الأُسر ويكبر فيها الأطفال، وتلبس فيها الصغيرات الملابس الملونة، ويلعب فيها الصغار الكرة في الشارع. الغزاويون مثل كل بشر العالم، ليسوا شعباً بقوى خارقة ليتحملوا حملات الإبادة المتوالية منتظرين إشادة العالم بقوتهم، وليسوا محاربين أشاوس مقاومين للسلام ومصرين على تبادل إطلاق النار، هم آباء وأمهات، أجداد وجدات، أخوال وخالات وأعمام وعمات، أصدقاء وطلبة وشباب وشابات، يطمحون لحياة مستقرة كريمة هادئة تسمح لبعض من آمالهم وأحلامهم برؤية النور.
كان العالم يكرر تهماً معلبة للفلسطينيين، بالبيع، بمقاومة السلام، بالعنف في التعامل مع «الإسرائيليين المتحضرين»، وفي أفضل الحالات بأسطورية تتعدى كل قدرة بشرية تفرض عليهم التحمل والصبر والمقاومة. اليوم، فتح العالم العلبة وراجع هذه الآراء فيما يشبه عملية جراحية عميقة مؤلمة، ليبدأ بإزالة أورام هذه الأفكار الخبيثة الكاذبة، ولينظف الجراح الفكرية بمعقمات الحقائق والأدلة. اليوم فُتحت الكتب، ونُشرت الوثائق، وتبدت الحقيقة في أبهى وأقسى صورها، ولكن بأي ثمن؟ هل احتاج العالم لأن يرى الدماء تسيل، حرفياً، في شوارع غزة وأن تحشى بواطنها بأجساد الأطفال والنساء والرجال حتى يبدأ بمراجعة السائد، حتى يأخذ البشر خطوة أبعد من حواسهم القاصرة وأفكارهم التقليدية المتوارثة حتى بُليت وتهتكت إلى حيث الحقيقة التي تبتعد فقط خطوة أو خطوتين؟ هل كان لا بد لهذه الإبادة الوحشية أن تحدث بكل هذه العلنية والصفاقة والغرابة حتى يفتح البشر كتاباً، يراجعون وثيقة، ينظرون في تاريخ، كلها كانت على بعد سنتميترات من حواسهم القاصرة، كلها كانت متاحة لو أنهم ألقوا نظرة أبعد، سمعوا كلمة أعمق، فتحوا كتاباً مختلفاً، أخذوا خطوة أوسع خارج حيزهم الضيق الأناني العنصري المحكوم بما توارثوه من أفكار وبما يشهدونه من خلال حواس قاصرة يسهل خداعها وتخديرها؟
يبدو أن الحقيقة دوماً ثمنها مرتفع جداً، ويبدو أننا سنبقى ندفع هذا الثمن في كل مرة تجبرنا فيه هذه الحقيقة على الخروج من حيزنا الضيق المتعنصر بحواسنا. هذا قدرنا، ولكن ويا لغرابة الأقدار، لسنا متساوين في دفع الثمن!