سبع لفات
أفكر كثيراً في موضوع المبادئ والمثل، أفكر فيهما وأنا أحكم على من أمامي حين يقوم بكسرهما، أفكر فيهما حين أساوم نفسي عليهما، حين أسرّ لضميري أن شيئاً من التنازل لن يشكل أكثر من شرخ بسيط في جدار المبادئ يمكنني أن أتغاضى عنه، فعلى كل، لن يسقط المبنى بسبب شرخ واحد. كثيراً ما أطيب خاطر نفسي بقصة صمود المبنى وضآلة الشرخ الذي أضعه أنا عليه، إلى أن تكثر الشروخ فيصيبني شيء من الاشمئزاز من شكل الحائط بخطوطه القبيحة، فأضع ضمادة مؤقتة أخرى، أبدأ بتخيل أشكال لطيفة تتشكل من كل الخطوط القبيحة، تتراءى لي صوراً تتحور قصصاً شاعرية تخفف ألم خديعتي للمبدأ وتجمل تلاعبي على المُثل وتسهّل لي التعايش مع تناقضي.
هي قصة طويلة معقدة تدور في عقلي، أستخدم فيها كل أسلحتي لإخماد هذا الصوت الذي يطن في أذني، أحياناً أنجح، أحياناً أفشل، وفي الغالب أنسى وأستريح بعد فترة. في زيارة أخيرة لطبيب حكومي، أخبرني موظف الشباك أنني أحتاج لوساطة لأسرع عملية المراجعة، هكذا بوضوح وبشكل مباشر وجدت نفسي أقدره عليهما، تحاملت على آلامي ورفضت، بعد الزيارة الثالثة غلبني الوجع فاتصلت بصديقة سهلت الزيارة، أعلم أنني باتصالي هذا لربما أخذت مكان شخص أحق، وأعلم أنني استخدمت آلامي الجسدية مبرراً لأقفز بها على آلام الآخرين، لكنها لحظات الألم اليائس، جعلتني أسرّ لنفسي أن الكل يفعلها، وأن خطئي الصغير تبرره آلامي الكبيرة وأن أخطاء الآخرين الكبار تمحو أخطائي الصغيرة وأن ما أتيت هو شرخ، مجرد شرخ صغير. مع ذلك، بقيت الفكرة تعذبني، قررت ألا أعود لاستخدام وساطتي الصغيرة، ومجدداً عدت لطابور المواعيد الطويلة، وحين فاتني قسراً موعدي الأول وأتى موعدي الثاني بعد شهرين منه، راجعت نفسي بعمل ذات الاتصال السريع، ثم تذكرت أن ما سيلحق لن يكون مبهجاً، فقررت أن أسد الطريق على نفسي، أعترف لقرائي وأستخدم معرفتهم لمنعي من رسم شرخ جديد.
أعلم والله أن قصتي سخيفة وضئيلة، ولكنها تمثل كل هدم للمبادئ والمُثل، كل شرخ صغير، كل كسر كبير، كل تحطيم كامل، في النهاية القاعدة واحدة، غمضة عين، سحبة نفس، همسة صغيرة بأن هذا الموضوع يتكرر كل يوم، وأن الغير يأتي أضعاف هذا الخطأ، ثم خطوة إلى الأمام اصطفافاً بجانب “زميل” آخر فاسد، إن كان قد سرق أموال التأمينات الاجتماعية، أدخل في البلد صفقة فاسدة، أو تخطى دور شخص آخر بوساطة مسكينة. التفافتي المستمرة في دائرتي المغلقة هذه دفعتني للتشكك في طبيعة المبادئ وحقيقة الدوافع التي تلزمنا بها، لربما المبادئ والمثل ما هي إلا رفاهية يتشدق بها من يستطيع، من يملك، من له سقف فوق رأسه، من أمامه لقمة تسد رمقه، من لديه ألفا دينار يستطيع صرفها على طبيب خاص (عودة للتبرير الذاتي)، لربما هي ثقافة قانونية اجتماعية، يتمسك بها من اعتاد سيادة القانون في مجتمعه وشهد عواقب كسره، لربما هي خوف من عذاب الآخرة، لربما هي طمع في ثوابها. هي أشياء كثيرة، كلها أشياء أنانية، لكنها لا تتحقق غرائزياً، لا ننحو لها طبيعياً، هي تدريب متواصل مستمر على مقاومة الإغراءات، هي علم وثقافة ورفاهية وخوف ورغبة مجتمعة أو منفردة. لم أعد أدري تحديداً ما هي دوافع التمسك بالمبادئ والمثل، لكنني أدري أنها باتت تزعجني كثيراً في حياتي، ليس لأنني مبدئية ومثالية أبداً، ولكن لأنني أفكر فيها كثيراً، وأكسرها كثيراً، ثم أحزن كثيراً وأتعذب كثيراً وأغضب كثيراً وأنسى كثيراً، وأعود أبدأ اللفة من جديد. تعبت.