سؤال الموسم
في عارض نقاشنا حول ظروف المرأة التاريخية وبعض جوانب الحركات النسوية، قفزت إحدى الشابات في الفصل الدراسي قائلة: “تسمحين لي أسأل سؤال خاص؟” ابتسمت أنا في عينيها المليئتين بالتحدي، وكأنها وَجَدت سؤال الموسم، وأومَأْتُ موافقة فقالت بشيء من الحذر “دكتورة ماذا لو أراد زوجك الزواج بأخرى، ما سيكون موقفك؟” سرت همهمة في الفصل بين توجس من خصوصية السؤال وبين نهنهات ساخرة مما تأكدوا أنها إجابة بديهية لمدرِّستِهِم التي يعرفون آراءها.
قفزت أخرى بعينين لامعتين “أتصورك ستقولين شيء مختلف، صحيح؟” “ليس بالضبط،” رددت أنا “نحن بشر واختيارات ردود أفعالنا محدودة، ليس لدي خيار غريب أو عظيم. فقط سأفعل ما يفعله المحبين الموجوعين”. “وما هو ذلك؟” تساءلت أخرى، “سأبقى أحبه وسأتمنى له سعادة قادمة في حياة لن أكون فيها. أسعدني سنوات طويلة، فإذا كانت سعادته القادمة مع أخرى، إذا ما تحول قلبه تجاهها، والقلوب دوارة ذات إرادات مستقلة، فهذا قدر لا يرد. أريد أن أراه سعيدا بحجم البهجة التي أضفاها على حياتي حتى وإن لم أبق في حياته”. “ستتركينه؟” سألت أخرى وقد تدلدل القلم من فمها، “نعم، وأنا أحبه وأشتاقه وأتمنى له كل السعادات الممكنة”.
يبدو أن انقباضة قلبي انعكست على وجهي. تضاحكت الصبايا “دكتورة، وجهك قلب اصفرارا”، رددت ضحكاتهن بابتسامات مغتصبة، “أوجعتمونني يا بنات، أي أسئلة هي هذه ولأي سبب تضعن قلبي في هكذا اختبار؟” تقافزت ضحكاتهن الفتية على وجوههن النضرة وتوالت دعواتهن الصادقة لي بدوام السعادة والمحبة.
ورغم كل الضحكات، خرجت من الفصل مكسورة القلب وأنا أخفف عن نفسي قتامة السؤال، الذي بدا معلقاً أمامي في ممرات الجامعة، بإقناع نفسي بنبل موقفي، أن لو أنني صادقة في حبه، سأتمنى له السعادة المطلقة ولو على حساب انكسار روحي. إلا أنني كنت أستشعر هذه المنطقة المظلمة في نفسي، هذه الأنا الأخرى بداخلي والتي تريده متألماً نادماً لو حدث وتغيرت الأقدار. كنت أعلم أنها ستكون ليلة عصيبة مليئة بالأحلام، فهكذا هي أنا، مملة ومِثلي هي أحلامي، لا إبداع فيها مطلقاً، ما يزعجني نهاراً سأراه ليلاً بلا تحريف أو تطوير. وهكذا كان. دارت أحلامي زرقاء الأحداث على خلفية حالكة السواد كل ليلي، وكأنني أحوم في إحدى لوحات إدوارد مونك القاتمة. رأيته فيما يرى النائم يتمشى وأخرى بلا ملامح على ضفاف بحيرة إيزيو، إيطاليا، رأيته يضع كرسياً أسفل السقف الخفيض في الشقة المستأجرة لينبهها إلى ذلك الانخفاض ألا تطرق رأسها فيه، رأيته يشتري لها فستاناً أعجبها بعد أن استكثرت سعره، رأيته ينظر لها بدفء وينفخ سيجارته في وجهها مداعبة ويفرك يديها بين يديه مدفئاً برودتهما، ثم الطامة الكبرى، رأيت صورتها على وجه ساعته الإلكترونية، ورأيتني في قاع المحيط، بلا فحوى، بلا مقدمات ولا متممات.
لابد وأن كل امرأة تعيش في دولة يعلي فيها قانونها الرجل على المرأة، يوليه حقوقاً ويلبسه وصاية ويسيده بولاية، لابد وأن الفكرة خطرت لها، ماذا لو! هو سؤال تصنعه الإباحة الاجتماعية والتفضيل القانوني والتدليل الديني للرجل الذي بيده كل شيء والذي قيمته هي ضعف قيمة صنوته المرأة، سؤال منقوش “مسمارياً” على لوح حياة كل امرأة تدخل في علاقة مع رجل، مهما كان نبل وإخلاص هذا الرجل. لم يكن من الممكن أن أخبر هؤلاء الشابات باستحالة فحوى السؤال مهما استشعرت غربته عن حياتي، ذلك أن هذا استشعار متعجرف في بعده عن الأقدار التي لا تعرف المستحيل، وفي تقييمه للحياة، خصوصاً في شرقنا الأوسط المعجون بكروموسوم “واي”، التي تُيَسِّر الإطاحة بكيانات النساء وباستقرارهن.
حزني يمسك بقلبي من أيام، وبرودة تسري في أصابعي كلما تذكرت الحوار والأحلام، ورجة قوية تأخذ جمجمتي كلما تذكرت كيف أن هذه “اللو” التي أخلت توازني واقتحمت أحلامي هي حقيقة واقعة في حياة الكثير من النساء، حقيقة تُضاعف آلامها تبعاتها الناتجة عن قوانين أحوال شخصية ذكورية جلفة تأكل حياة المرأة وروحها ومكانتها بين أبنائها وفي عائلتها. ليس المؤلم تحديداً هو خيانة العواطف وتغيرها، فهذين جزء من قصتنا البشرية ومن طبيعة علاقاتنا المعقدة فيها، ولكن المؤلم هو إباحة هذه الخيانة وتقنين وشرعنة تغير العواطف بما يسمح للرجل أن “يحصل على الكيكة ويأكلها كذلك” كما يقول المثل الإنكليزي، ثم إتاحة الفرصة له أن يعيد ويزيد ويكرر التجربة بأقل الخسائر الممكنة شرعياً ومدنياً. حين تتغير العواطف، وهي بكل تأكيد قابلة جداً للتغيير من جانب الرجل أو من جانب المرأة، فلا مفر عندها من تغيير مجريات الحياة كذلك، على أن يكون ذلك التغيير معلناً وإرادياً للطرفين ذي تبعات عادلة تجاه كليهما. ولكن حتى مع أفضل هذه الشروط لأسوأ هذه الظروف، وحتى مع تقدير مصارحة الحبيب بالتغيير القسري في مشاعره، وحتى مع تمني كل السعادة له، حتى في هذه الصورة المثالية التامة للمشهد الحزين، سيبقى لهذا القَدَر طعم الخيانة. لماذا سألنني الصبايا هذا السؤال؟ في أي مواجهة أردن أن يضعنني مع مثاليتي التي أدعيها دوماً وأنا أعلم الناس بكذبها؟