رِدّة
لي فترة وأنا كافرة، كفرت بغير إرادتي بالتوافق البشري ومبادئ العدالة والسلام والمحبة والمساواة، أسررت لنفسي أن ربما هي ليست لنا نحن البشر ونحن لسنا لها، ربما هي لا تتوافق وتركيبتنا الجينية، ربما هي لا تصلح لنا مخلوقات محدودة التطور يمكن لحاجاتها الجسدية البسيطة أن تحولها إلى وحوش ضارية. كفرت أنا والآن أنتظر، أنتظر بفارغ الصبر الخروج من هذه المرحلة المؤلمة، أنتظر نور الإيمان مرة أخرى.
ومع ذلك، مؤمنة أنا بالثورات العربية، ورغم كل الذي كان وسيكون لا زلت مؤمنة، إيماناً يعذبني وكأنني قابضة على جمر، مؤمنة أنا بوطني، بعدالته وسلامه، بأن قوانينه فوق كل فساده، وكذا يعذبني هذا الإيمان، تصيبني الصدمات كل مرة وكأنني أسمع لأول مرة، أشاهد أول مرة، ينكسر قلبي وأنزوي بكفر أتمناه ولا أطوله، يبقى إيماني يعذبني كأنه وصل لا أطوله، حب لن ألتقيه أو أسقيه أبداً. في يميني جمر الثورات وفي يساري جمر الكويت، كل شيء آمنت به، كل مبدأ صليت له، كل فكرة استعبدتني وعبدتها، لمَ يا رب أريتني هذا السقوط العظيم؟ متى سأكفر بالثورة والوطن مثلما كفرت بالإنسان المبدئي، أو متى سأعود وأؤمن بالإنسان المبدئي مثل إيماني بالثورة والوطن؟ يتنازعني إيماني وكفري، فأصبحت أنا الشيء ونقيضه، الشعور وعدمه، الإيمان وكفره.
على مكتبي أجلس مكسورة، كأنني كنت في يوم وما عدت، أحمل ذنب الثورات، أحمل ذنب المقاطعة، أحمل ذنب إيمان لا يريد أن ينتهي إلى كفر، حب لا يريد أن ينتهي إلى لا مبالاة، فأتعذب وأمعن في تعذيب نفسي. لجأت لليوتيوب، أشاهد هذه الأيام أفلاما وثائقية لعصر شاه إيران، فيرعبني قرب الأمس من اليوم، تطابق الأخطاء، تكاثر الخطايا كأنها قدر لا مفر منه. هذا الشاه الذي ارتفع عن شعبه بثرائه وسلطته فعذبهم وقمعهم فاستحق ثورة أودت به للمنفى، وما يمكن أن يكون أقسى من المنفى؟ هناك ارتحل من دولة إلى أخرى كلها تتخوف من استقباله إلى أن احتضنه السادات الذي وفر له مأواه الأخير. تعذب الشاه بالنفي ولربما بالندم ثم بالمرض، مات حزيناً ولكن ليس حاقداً حسب ما أبلغ الصحافيون الذين لازموه. عاشت إمبراطورته بعدها تتعذب بوفاة أبنائها الواحد تلو الآخر، ففقدت الابن الأوسط والابنة الصغرى للانتحار، انتهى كل شيء إلى لا شيء، هذا الإرث العظيم، الثراء، القوة، السلطة، كلها… إلى لا شيء. أعلم بطغيان الأسرة الذي استحقت به المنفى، لكنني لا أستطيع مقاومة حزن يشعل قلبي بمصيرهم، ترى هل سيشعر الجيل القادم بذات التعاطف مع أسرة مبارك على سبيل المثال، هذه الأسرة التي لا تعاطف لها في قلبي؟ أهو الوقت ينسينا الأخطاء ويبقي على الأحزان والآلام، فنسامح أكثر بعد أن يمضي الزمن؟
لا أعرف معنى لما في قلبي من حزن وكفر اجتمع تحت قبتيهما آل بهلوي، آل مبارك، الثورات العربية، الهزيمة الكويتية لمعارضة أكلها أبناؤها. ولا زالت القبة تتسع، المذابح السورية، المذابح اليمنية، والمذبحة الأميركية الأخيرة، هذه المذبحة التي أسال من خلالها الأميركيون دماء مبادئ يبدو أنها ما كانت في يوم ومُثُل ما تحققت في زمن. دونالد ترامب جلس على الكرسي الكبير، وهو خير جالس في الواقع على كرسي الدنيا الحالية، هو أيقونة تمثل كل ما حدث ويحدث، كل ما باعه الناس ويبيعونه كل يوم، هو المال وهو القوة وهو اللون الأبيض، هو السلطة في عالم ليس للضعيف فيه مكان، هو السلاح الذي يقتل في سورية ويفتك في اليمن، هو البنوك التي تسرقنا، هو الأحقاد التي تأكلنا، هو كل واحد منا قالها في يوم لغريب في ديارنا “إذا ما تتأدب أسفرك” هو كل واحدة منا صرخت بكراهية وإذلال لفقير يتعبد دون ضرر أو ضرار، هو الرجل الذي يردف كلمة امرأة بـ”عزكم الله”، هو كرهنا للغريب في ديارنا، هو حبنا للدينار، هو الخطط والمكائد والصفقات والرشوات والوساطات، هو الأسرة التي تقيم تشاورية والقبيلة التي تعلن فرعية، هو الطائفة التي تدفع “بمندوبها” في المجلس، هو الثري الذي يشتري أصواتا ليصل للمجلس ويصبح فيه حامي المال العام. هو يمثل كل ذلك، هو الرجل المناسب على الكرسي المناسب في الزمن المناسب، هو نحن ونحن هو بأطماعنا وعنصرياتنا وشهواتنا وتعنتنا، هو أيقونة لزمان ما عاد فيه للإيمان مكان. كفرت، وما أنا بكافر، “بس شو بعملك إذا اجتمعوا فيي كل الأشيا الكافرين”*.
*من أغنية زياد الرحباني “أنا مش كافر”