رومانسية
الأهمية القصوى لتجديد الخطاب الديني أولا ومن ثم فصله عن المشروع السياسي ثانيًا تظهر اليوم ناصعة الوضوح عند النظر في الأوضاع الكارثية الداخلية للعراق، لعل آخرها وأخطرها هو وضع مداولة تعديلات قانون الزواج العراقي، خصوصًا جزئية سن زواج الأنثى فيه. وبغض النظر عن النقاش الدائر حول بعض إيجابيات التغيير على القانون من حيث الحد من سلطة ولي الأمر على الابن أو الابنة في موضوع الزواج، فإن معضلة تعديل القوانين المدنية بناءً على نصوص أو مفاهيم دينية تبقى هي التعقيد الأشد وطأة على المجتمع بأكمله، الذي تقود تداعياته الى مناطق حالكة الظلام مثل تلك التي يمر بها العراق اليوم.
فطالما بقيت المفاهيم الدينية القديمة، التي منها ما هو من الخطورة بمكان، مثل مفهوم زواج الطفلات أو مفهوم مُلك اليمين، غير مدحضة أو «منسوخة» بوضوح بحيث يظهر أثر الخطاب الديني الحديث في الفكر الثيولوجي القديم، فإن أشخاصا ما، لأغراض ما في أنفسهم، سيعودون إلى محاولة الدفع بهذه المفاهيم الى السطح، ومحاولة تقنينها بحجة السند الديني، وليس هناك الكثير مما يمكن قوله لصدّهم وكتم «منطقهم» سوى استخدام تلك الكلمات العامة المجامِلة التي تدافع عن الفكر الإسلامي بعموميات ورومانسيات وجمل أدبية كليشيهية، من دون أن يكون لها أثر حقيقي في الفكر والمجتمع الذي يحويه. فالواقع يقول إن داعش كمؤسسة إرهابية قامت بأكملها على إعادة الفرز «المنطقي والواضح» لنصوص ومفاهيم وقصص دينية تأريخية لم يتجرأ مفكر ديني من داخل المؤسسة الدينية السنّية أو الشيعية على رفضها أو حتى حبسها في قالبها التأريخي الذي يمكن له، أي القالب التأريخي هذا، أن يسهل مهمة تبرير وتفسير الكثير من القصص والأفعال التي كانت مقبولة في زمن بداية الإسلام وما عادت اليوم.
وعليه، فطالما بقيت هناك سيوف مُشْهَرة لتطبيق الشريعة الإسلامية (أياً كان تعريفها) على مؤسسة الدولة المدنية، وطالما بقيت هناك جراب مغلقة على مفاهيم وتفاسير وتبريرات وحيثيات القرن السابع، ستبقى تظهر لدينا معضلات كارثية مرعبة ومحرجة جدًا أمام العالم، مثل معضلة عراق اليوم، هذا العراق الذي يفترض أنه تحرر من مصيدة أحد أعتى طغاة التأريخ ليقع مباشرة في شباك الطائفية وليلتف حول عنقه الجميل حبل تطبيق الشريعة على الشارع، هذا الحبل الذي لم يلتف في يوم على عنق شعب إلّا وتركه جاحظ العينين أزرق الوجه في عداد الأموات.
إن زواج الصغيرات لم يكن في يوم مفهومًا خفيًا، لم يظهر بشكل مفاجئ في كتب الفقه الإسلامي ليحدث صدمة مثل مثلا صدمة «إرضاع الكبير» التي قام لها المسلمون ولم يقعدوا بعد اكتشاف سرديتها واعتباريتها في كتبهم التراثية، وهو مفهوم موجود لدى المذهبين الأبرز في الإسلام الشيعي والسنّي، وإن كان المفهوم الشيعي أكثر وضوحًا ومباشرة. وعليه، طالما بقي هذا المفهوم معلقًا من دون دحض ورفض نهائيين، وطالما بقيت قصة زواج الرسول من عائشة منقولة باستقطاع من سياقها التأريخي وبإهمال لشرح عدم مواءمة مفهومها للظرف الحياتي والفكر الإنساني الحاليين، سيبقى هناك بشر مرضى يعودون ليسوقوا هذه المفاهيم والقصص باستقطاع متعمد من عمق التأريخ ليرضوا شهوة في أنفسهم أو ليحكموا قبضة مريضة على من حولهم. طالما بقيت الإباحة، فلم يجددها خطاب عقلاني جريء لاحق، ستبقى هناك شهوات مريضة تستبد بالضعفاء، وحاجة وعوز يدفعان العائلات لبيع صغيراتهم، وطفلات معذبات يدمين ويتوفين على مذابح الزوجية، وكله مجمّل ومحلل باسم الشرع وقصصه التأريخية وإباحاته النصية. حتى يظهر خطاب ديني تجديدي، المنطق فيه فوق كل اعتبار، وحتى يتحرر النص التشريعي القانوني من كل ملمح عقائدي مباشر، سنبقى ندور في هذه الدائرة الزمنية المغلقة، وكأننا نعيش لعنة يوم يكرر نفسه من دون أن يأتي آخر يليه. حتى ينتهي اليوم المظلم، لا بد لنا من أن نقلب الصفحة، من دون خوف.