رفرفة
دع عنك موضوع الدراسة المشتركة وما يتدلى منها من مواضيع مثل حرية اختيار الدراسة، وما يُستخلص منها من إيحاءات حول مدنية وتطور المجتمع، وسأدع أنا عني نصف الفرحة بحكم يبدو أنه يعيد الحالة الجامعية إلى سابق عهدها، هذا إن تم النفخ في الروح الحقيقية للحكم، كما سأدع عني نصف الحزن بحكم أنه لم يأت منتصراً تماماً لليبرالية الفكر ومدنية الحياة، مفسحاً المجال للكثير من العراك تفسيراً وتأويلاً. سأدع عني كل هذا وأطلب من قرائي الذين يشرفونني بالاطلاع على مقالي أن يدعوا عنهم كل ذاك، ليس لأن الموضوع ليس بمهم، فلا حاجة هنا لإبراز أهمية وحيوية وخطورة العملية التعليمية وأساليبها، ولكن لأن هناك، وبكل أسف وغرابة أقولها، ما هو أهم.
لربما هذا الأهم يبدأ من الكتاب المدرسي، ولربما يُبنى الكتاب المدرسي على هذا الأهم، لم أعد أعرف، لكن كل ما أعرفه هو أنه عندما يتضمن تقرير ديوان المحاسبة حول العلاج بالخارج فقرة تقول “التدخل في عرض العديد من الحالات المرضية المتقدمة لطلب العلاج بالخارج بواسطة أعضاء مجلس الأمة وشخصيات أخرى بلغ ما أمكن حصره منها (6456) حالة خلال الفترة من يناير 2014 إلى يناير 2015″، عندها أعرف بكل تأكيد أن المصيبة كارثية، والكارثة نووية، وأن فسادنا برلماني، وأن برلماننا مليء بفساد الوساطات، وأن الإثم ها هنا لم يقف حد التعدي على حق أو سرقة وظيفة من تحت أنف مستحق أو اختلاس مليون أو مئة مليون من بين أرجل شعب كامل، الإثم هنا يتجلى في جريمة قتل سياحية: يرسل سياح مخمليون على حساب مرضى خيشيين والمنفذ نائب من “نوائب” خدمات المجلس.
هل أنا حزينة أم فرحة لحكم المحكمة الدستورية بشأن قانون منع الدراسة المشتركة؟ حقيقة لا أعرف، والمصيبة أنني حقيقة لا أهتم. علقت في “تويتر” دون نفس وتبادلت أحاديث باردة مع أصدقاء دون عمق، وليتني كنت أستطيع أن أفرح أو أحزن أو أنتصف طريق المشاعر هذه بأي درجة حقيقية، ولكن كيف والفساد يخرج فاتحاً فمه ليعبئ أجواءنا برائحته الكريهة؟ أمي تذهب للمستوصف برفرفة في قلبها الجميل، يحيلها المستوصف إلى مستشفى حكومي، تقف فيه وقد قل نبضها وتدنى ضغطها ورفرف قلبها حد 160 نبضة في الدقيقة، تترجى الدكتور المساعدة، الدكتور لا يجد سريراً، فيأخذها من يدها إلى غرفة الملاحظة، الغرفة التي توفيت فيها جدتي منذ أسابيع معدودة، لتمشي أمي بعينيها المرهقتين على كل الحالات الجالسة خارج الغرف تنتظر سريراً يخلو، ثم ليعتذر لها ألا مكان متوافرا لها حالياً، مقراً بحالتها المقتربة اقتراباً آثماً من الخطورة ومعترفاً بعجزه أن يضعها بقلبها المرفرف على سرير، قادت أمي سيارتها بضغط متدن ونبض خجل وقلب يدق في أذنيها لتوصل نفسها إلى مستشفاها الخاص، لنعرف نحن الخبر ونأتي نحوم حولها، وهي تتماثل للشفاء، الشفاء من صدمة المستشفى الذي ليس فيه سرير لحالة قلب.
فهل أفرح أم أحزن لحكم المحكمة الدستورية؟ أجد نفسي خاوية، عقلي باهتا، أذني تطن بدقات قلب أمي، فلا أجد للحزن معنى ولا للفرح، أتذوق الخوف من بلدي في بلدي، من أصحاب القوة، من أصحاب السطوة الذين يسرقون الوظيفة من ابني، والدور من ابنتي، وحتى السرير الفارغ من أمي. لا أعرف الآن سوى هذا الشعور الحارق بعدم الأمان، بفقدان السيطرة على حياتي لأراها متدلية من أطراف أكمامهم الحريرية ومن أسفل سياراتهم الفارهة، وقد أغلقوا أبوابها على هذه الحياة لتترجرج وتتخبط على أرض الوطن، وهم يسرعون مندفعين ليصلوا إلى حيث لن أصل في يوم.
كل ما أعرف هو أنني خائفة حد التجمد، فالنواب الذين يتوسطون في حياة وموت الناس، يرسلون هذا ليعيش أو أحياناً ليترفه ويحرمون ذاك، إذا وصلت بهم الحال أن يتدخلوا، وبهذا الشيوع والكثرة، في موضوع حياة أو موت، ففي أي مداخل ومخارج حياتنا يتدخلون كذلك؟ أي لقمة يسرقون وأي دينار يخطفون وأي دور يحتلون على حسابي، أي فرصة ينتهزون ربما كانت لي أو لأولادي، أي سرير يملؤون ربما ينقذ حياتي أو حياة أحبتي، أي حلم يسرقون ربما كان كل ما أملك؟
كيف أفكر في أي شيء، كيف أحيا لأي شيء وقلب أمي الذي رفرف ذات لحظة حد خيانتها لم يجد سريراً يستريح عليه ويعود لرشده من فوق سطحه؟ ماذا لو لم تستطع أمي أن تتحرك من المستشفى الحكومي؟ ماذا لو لم نكن نملك المبلغ المطلوب لسريرها الخاص؟ ماذا لو؟ ألف “ماذا لو” تعذبني، تؤرقني، تطحن ثنايا قلبي بالرعب، فأي شعور آخر يمكنه أن يتجاور وكل هذا؟
«آخر شي»:
كدت أنسى، مبروك افتتاح استاد جابر، المكان موجود، وهذا هو المهم، تبقى الرياضة وإصلاحها، وهذا موضوع ثانوي، مبروك وألف مبروك.