رفاهية العزل
فيم يطلق الأطباء حول العالم تحذيراتهم الآمرة بالتباعد الاجتماعي التام والانعزال المنزلي، وفيم بدأت معظم حكومات العالم بمساندة هذه التحذيرات بإعلانات حظر تجول وبتفعيل عقوبات للمخالفين، تغلب الطبيعة البشرية كثير منا فتجدهم ينحون لافتعال أسباب للخروج، متواصلين بالشكاوى أو المزاح حول صعوبة العزل المنزلي وما يتسبب به ذلك لهم من تداعيات حقيقية أو افتعالية كوميدية.
وفيم أنه لا بد من تقدير الطبيعة البشرية التي تعاني تحت أي صورة من صور العزلة والحبس بحكم تشكيلها التواق للاندماج والتواصل، وفيم أن الكثير من المعاناة تحت الحبس والعزلة هي حقيقية بل وقد تكون على درجة من الخطورة، ففي الغالب، أن التباعد والانعزال هما في الواقع انعكاسا لرفاهية لا تتوافر إلا للبعض منا في هذه المرحلة الوجودية المصيرية من تاريخنا البشري.
تحضرني قصة لشاب مصري يعيش وحيدا في ميلانو، في إيطاليا، وكيف أن الوحدة مصحوبة بمرور الساعات الثقيلة قد بدأت تزن ثقلا على روحه ونفسه خصوصا وهو بعيد ومعزول عن كل أهل أو صحبة، وخصوصا بعد أن خفت كثيرا، حد الانقطاع، العادة الإيطالية للغناء في البلكونات تواصلا وتحابا بين المعزولين، والتي كانت حسب شهادته تخفف عنه كثيرا، وهي عادة انقطعت مع ارتفاع أعداد الموتى بين الإيطاليين، حتى لا يكاد يخلو حي من نكبة فقد.
لا بد أن معاناة هذا الشاب في وحدته كبيرة جدا، مؤثرة جدا، بلا أحبة يتواصلون معه ويتواصل معهم، في أرض غريبة، وفي عزلة تامة. ورغم ذلك، رغم أن قلبي يذهب إليه ومن يحيون نمط حياته الموحشة، لا زلت أقول، بما أنهم يستطيعون اختيار العزلة، فهذه القدرة في حد ذاتها هي نمط حالي من الرفاهية المستوجب حمدها.
بالتأكيد، لا توجد رفاهية، بالمعنى الحقيقي للكلمة، تحت هذه الظروف لأي منا كبشر، حتى بالنسبة لأغنى الأغنياء الذين يحبسون في بيوتهم الأشبه بالمنتجعات، فالوحدة لها ذات الطعم أينما كنا، والانعزال والحبس لهما ذات القسوة على النفس، وإن كان هذا الطعم وتلك القسوة بدرجات متفاوتة.
إلا أن المقصود أن هناك من البشر من هم محرومون من القدرة على اختيار العزلة، على تفعيل حبس أنفسهم ليحموا أرواحهم التي هي حاليا أثمن ما يمتلك أيا منا على سطح الأرض.
هناك الذين لا يستطيعون الانقطاع عن أعمالهم تأمينا للقمة العيش يوما بيوم. هناك هؤلاء المشردين، الذين ينامون في الشوارع الذين لا سقف لهم ينحبسون أسفله لتتأثر نفسياتهم من كتمانه، لربما أقصى أمنياتهم اليوم هو شيء من هذا الكتمان.
هناك الذين يحيون في مخيمات اللاجئين، تتلاصق خيمهم وتختلط أجسادهم وأجساد صغارهم بلا أي مقدرة على فصل آمن يحميهم من بعضهم البعض، يعيشون ليس فقط خوفا من فيروس قاتل، بل يؤنسون هذا الخوف بمعاناة الجوع والعطش والبرد وشظف الحياة.
هناك الذين ينامون في المقابر، تحت الجسور، في مقالب الزبالة، يتمنون لو ينعزلون فلا يستطيعون، يترجون وحدة بين أربعة حوائط فلا يجدون. هناك عمالة فقيرة، تعيش بالعشرات محشورة في غرف صغيرة بلا تهوئة، بلا حماية، بلا أقل درجات النظافة الصحية.
وهناك الأطباء والممرضون والكوادر التمريضية الذين يفرض عليهم شرف المهنة، وتضغطهم أوامر الحكومة أن يستمروا في العمل، مثلهم في ذلك مثل بقية المهن الحساسة التي يخرج أصحابها لتأدية واجباتهم تسييرا للحياة في أقل متطلباتها رغم ما يعرضهم إليه خروجهم من مخاطر وضغوطات نفسية وجسدية.
بكل تأكيد، ليس هناك ضغوط ومخاطر مثل تلك التي يتعرض لها الأطباء والممرضون والكوادر الطبية والإدارية للمستشفيات والمراكز الصحية. هؤلاء يضعون أياديهم في عش الدبابير، يعملون في منطقة الصفر، يذهبون إلى حيث الموقع الذي نهرب منه جميعا، يواجهون عمدا ما نسعى نحن لتفاديه بكل قوانا، يلمسون ما ينصحوننا بأن لا نقرب، يتنفسون الهواء الذي يؤمروننا أن نتلافى، هؤلاء، ليس لديهم رفاهية الملل وحظوة قسوة الانعزال، أراهم يتمنون هذين ولا يحظون بهما.
يحضرني هذا المقطع التصويري الذي انتشر قبل فترة لطبيب يصل إلى بيته بعد يوم عمل فيركض طفله الذي لربما يبلغ الخمس سنوات باتجاهه، إلا أن الأب يتراجع خطوات للخلف هاتفا: لا، لا. يتراجع الصغير بتوجس ويركع الأب على ركبتيه باكيا. لربما هذا الطبيب الأب يتمنى هذه العزلة التي نتململ منها، لربما يترجى أن يحظر ويحبس مع أسرته، فيستطيع أن يحتضنهم إلى صدره، أن يقبلهم، أن يلمسهم، أن يأتي هذه الأشياء الإنسانية البسيطة التي نأخذها نحن كتحصيل حاصل، والتي هي اليوم عزيزة على الكثيرين منا.
لا أقلل طبعا من حجم المعاناة الإنسانية، والبشرية كلها واقعة تحت الحظر والحبس والانعزال الإجباريين. الضغط النفسي كبير، المعاناة شاسعة ومتنوعة، فتعاملنا وردود أفعالنا تجاه عزلنا تختلف جميعها، قوانا على التعامل مع الظروف ومع الوحدة ومع الحبس متفاوتة، وظروفنا الأسرية والبيتية والاقتصادية والاجتماعية كلها مختلفة بما يباين من ردود أفعالنا النفسية والانفعالية.
فالحبس والانعزال سيكونان مؤذيان جدا لمن يعانون من العنف الأسري، من الاضطرابات النفسية، من الوساوس القهرية وغيرها من الظروف التي تجعل هذا العزل مهمة صعبة جدا.
لكن يبقى علينا جميعا أن نتذكر أن الحقيقة الراسخة في خضم كل هذا، ومع بعض الاستثناءات الموضحة أعلاه، هي أن قدرتنا على أن نختار وننفذ العزلة والتباعد هي قدرة مرفهة، حمتنا بها ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية وحظنا في الحياة من خطر الفيروس المحدق.
في القادم من الأيام حين تضيق بنا أنفسنا، وتظلم الدنيا في أعيننا، وتتطير أرواحنا توقا للخروج ولقاء الأهل والأحباب، لربما نتذكر هذا النائم في عراء الشارع، هذه المكلومة في خيمة لاجئين، هذا المحشور بين عشرات العمال في غرفة ضيقة، هذا الطبيب الذي يدفع صغيره بعيدا، لا يستطيع أن يأخذه إلى حضنه، نتذكرهم، نصلي لهم، ونحمد أقدارنا التي جعلتنا قادرين على رفاهية العزل. دمتم بأمن وأمان.