رغد المسكينة
شاهدت الجزء الأول من مقابلة رغد صدام حسين على «العربية» ولم أكمل بقية الأجزاء، ليس بدافع من ضغينتي الشخصية، وهي موجودة ولا تزال في أعلى مستوياتها كما كانت منذ ثلاثين سنة، ولكن حقيقة لأنه لم يرد في المقابلة شيء غير متوقع. جهة ما تحضِّر هذه السيدة لدور سياسي مقبل، وكأن العراق لم يعانِ بما فيه الكفاية من نظام صدام، ثم من الأنظمة التي توالت من بعده، ليعود له الماضي بصيغة مختلفة، بهوية مؤنثة، بشكل «مودرن» متخفٍّ في تنورة وتسريحة شعر ملون بالأشقر. بدا ذلك واضحاً من أسلوب وتوقيت المقابلة ومن الطريقة التي حملت بها رغد نفسها على شاشة القناة. غير ذلك، لم يرد ما يثير الانتباه في كلامها. لم تقل شيئاً غير متوقع، على الأٌقل في المقطع الذي تابعته والذي لم يشجعني مطلقاً على متابعة تاليه.
دافعت رغد عن والدها وقالت ما معناه أنه كان عطوفاً ولم يكن يحب الدم، وماذا كنا نتوقع منها؟ هل كنا ننتظر أن تخرج علينا رغد في صحوة ضمير فجائية فتعترف بجرائم النظام السابق وتعتذر عنها؟ كلامها لم يخرج عن سياقاته السابقة، ودفاعها وتعليقاتها لم تختلف عن تلك التي كانت تطلقها بين الحين والآخر منذ عشرين سنة حين بدأ يظهر لها صوت. وقد كنا في الواقع في فترة سابقة نشفق على هذه المرأة التي قَتل والدها زوجها بدم بارد وهي لا تزال مجبرة على الظهور الإعلامي في صورة المحبة المدافعة الشفيقة بوالدها. حمل ثقيل هو هذا على كل إنسان حتى المجبول على الشر والمترعرع في محيط دموي. كان هناك الكثير من القسوة والإذلال والإهانة في المعاملة التي تلقتها هي وأختها، ومع ذلك بقيت هي ملتزمة بالخطاب السياسي الملقن لها، لربما محافظة على حياتها وحياة أبنائها، فأي خطاب مختلف يفترض أن نتوقعه منها الآن؟ في الواقع، أنا تفاجأت بعض الشيء حين قالت ما معناه أن والدها كان يضطر للقسوة أحياناً، وأنه لم يكن يفضل ذلك، لكنه كان يضطر لشيء من العنف والحزم، حتى هذه الدرجة من الاعتراف السخيف لم أتوقعها، كما ولم أتوقع منها الاعتراف «بخطأ» احتلال الكويت، وهو تعبير مخفف لما وقع على الكويت من جارتها في ذلك الزمن، إلا أنها أقرت بذلك فيما بدا على أنها خطوة «مصارحاتية» كبيرة منها. اكتفيت بهذا القدر، لم تأت رغد والقناة التي قابلتها بجديد مثير.
لم أكتب كلمة عن المقابلة في الواقع إلى ما قبل أيام حين ذكرتها في سطر على تويتر قائلة: «ليش الكل متفاجئ من تصريحات رغد المدافعة عن أبيها المتوحش؟» ليأتي أحد الردود محملاً بمقال مهم جداً نشر على موقع رصيف 22 لكاتبته رايات الفهد، والذي هو بعنوان «هل حقاً تصدقين أباك يا رغد؟ نحن لا نفعل» والذي دفعني فعلاً للتعليق بمقال مقابل. تتحدث الكاتبة في مقالها عن تجربة أبناء قيادات البعث العراقي أو العاملين فيه، وكيف أنهم كانوا يتجنبون الإعلان عن هذا الارتباط «خوفاً وخجلاً، بعد فترة قد يفصحون عن السر لأحد، كنوع من التعارف الأعمق، كأن يقولون لك: «انظر، هل يمكنك أن تفهم سبب عقدي الآن؟» يقولها أحدهم وينتظر منك أن تتعاطف معه لأنه يعيش مع هذه الفكرة، لأنه يعيش مع أب مجرم».
تستكمل الكاتبة قولها بأن البعض من هؤلاء انخرط في الثورات العربية أو عملوا مع منظمات مختلفة محاولين التخلص من «الإرث الثقيل» وأن ذلك كان يتسبب في الكثير من الارتباك في العلاقة بين الآباء والأبناء. تصف الفهد المشهد العائلي لمتابعة مقابلة رغد بدقة آسرة للقلب وهي تقول:
ما يزيد الأمر سوءاً هو أن اللقاء معها يعرض على حلقات يومية، وكأنه مسلسل رمضاني تجتمع العائلة لمشاهدته، وبدلاً من أن يكون نشاطاً عائلياً تشاركياً – يتشاركون الغضب في هذه الحالة – يتحول إلى جحيم وصراع سياسي. أتخيلهم جالسين في غرفهم، يتجنبون سلطة التلفزيون التابعة للأب، ويضحكون سراً على النكات المتداولة عن رغد وتصريحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، مستفيدين من سلطة الضحك التفاعلي على الإنترنت، يدعوننا نشاهد هذه الضحكات، هذه السخرية، نحن الذين نعرف هوياتهم الحقيقية. يضحكون من كلام «الست رغد» التي يتم تقديسها في بيوتهم، ويتخيلون بيوتهم في المستقبل بدون هذا الإرث، سيكون أبناؤهم أكثر حرية.
في النهاية، تختتم الكاتبة مقالها بتساؤل لربما هو الذي حرضني على التعليق بمقال، فهذا التساؤل لم يحضرني مطلقاً، حيث لم تكن إجابته بالنسبة لي قابلة للتطبيق، هي تقول:
الوعي السياسي –أو عدمه– ليس وراثياً، وإن كان هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا فنحن نثور ضده. نحن فكرنا وخجلنا، فلماذا تعجز رغد عن هذا الخجل؟ لماذا تتجرأ على أن تقتحم بيوتنا وتتحدث عن أبيها كما لو كان رجل سلام. لكننا الآن يا رغد لسنا جيلاً محاصراً بأسوار قصور صدام حسين التي قبعت فوق صدور أهلنا، يمكن لأي مراهق أن يعرف كيف عاش العراقيون وإن كذب عليه أبوه، هل حقاً تصدقين أباكِ؟ نحن لا نفعل.
لم أتساءل حقيقة عن مدى إمكانية خجل رغد من ماضي أبيها أو عن إمكانية حضور أي اعتراف للواقع المأساوي للعراق في زمن أبيها على لسانها، ليس لأنها إنسانة شريرة أو كاذبة بالطبيعة، فتلك أحكام منحازة غير موضوعية، ولكن لأنها وقعت تحت أقسى وأقوى أنواع البرمجات، البرمجة التربوية، التي يمكن لها أن تشكلك شخصاً مخالفاً حتى للطبيعة الإنسانية. لم أكن أعتقد للحظة أن حق الاعتراف وراحة المصارحة متوفران لرغد صدام حسين، لا من حيث الطريقة التي تبرمجت هي عليها ولا حتى سياسياً وأمنياً لها في الوقت الحالي. لا أتصور أنها تملك «رفاهية» الاعتذار والبدء من جديد، لقد ذهبت رغد بعيداً وعميقاً، وتأثرت هي شخصياً وأطفالها بطريقة شوهت روحها ووشمت داخلها بخطاب عنيف مريض، دونه، ليس فقط أنها ستفقد أمنها وسلامتها وعائلتها، لكنها كذلك ستفقد كل قدرة على أي درجة من درجات الاستقرار النفسي وعلى مواصلة الحياة.
أبناء قيادات حزب البعث قصتهم مختلفة، لربما يمكن لهم أن يسوقوا الحجة بعد الحجة لتوجهات وأفعال الآباء، أسهلها المخاوف الأمنية الطاغية، ولكن قصة رغد وإخوتها مختلفة، لقد ترعرعت رغد داخل رأس الحية، ومن هناك، حيث السم في بيئته والشر بأقصى درجات أريحيته، لا يمكن إراحة النفس بسوق المسببات، بتبرير المهادنات والانصياعات التي مارستها الأسرة بأكملها، فأي مسوغ يمكن لها أن تسوقه اليوم، أي مبرر يمكن لها أن تسرده، أي حجة يمكن لها أن تريح بها نفسها وتحفظ بها أمنها وأبناءها؟ متأخر جداً لرغد يا رايات، هي لا تملك التراجع الآن، ويبدو أنها لا تملك التقدم كذلك، لقد جمدها أبوها بجرائمه في منطقة «توايلايت» حيث لا هي قادرة أن تكون حقيقية في ندمها ولا قوية في تأييدها، هي في اللامكان.
ليخفف الله عن الأبناء ضحايا الآباء الموالين للأنظمة السياسية السابقة والحالية، وليخفف الله عن رغد وأبنائها، هي في مكان مخيف بارد متجمد، مرعب برعب المقابر الجماعية التي حفرها أبوها، داكن بدكانة الحفلات الماجنة التي كان يقيمها أخوها، متوحش بوحشية الحروب والاحتلالات التي مارسها جيش نظامها على مدى سنوات حكمه الثلاثين. هي في مكان صعب لا تملك منه سوى أن تقول ما قالته، ليعينها الله على المبتلى ويكف عنا شرور أفكارها المقبلة التي لربما لا تملك هي صدها. أتمنى لها حقيقة، بكل ما لها وعليها، شيئاً من السلام.