«رعاطنين»
نحن نرفض تماماً زيادة أسعار النفط لأننا متأكدون، أكاد أجزم فرداً فرداً، أن الزيادات المالية هذه ستذهب لمتنفعين، وستسرق بدم بارد، لن يتحسن بها وضع بلد ولن تتعدل بها شؤون حياة، ونحن نرفض الزيادة كذلك لأننا اعتدنا أن نكون رعايا، حكومتنا ترعانا، كما هي تحاسبنا وتربينا، حكومتنا توفر لنا كل شيء بالمجان أو ما يقرب.
ليست المشكلة في ارتفاع أسعار البنزين، فبطبيعة الحال الأسعار ترتفع، ومع أزمة انخفاض أسعار النفط التي شممنا رائحتها التي عبقت كالبيض الفاسد وبعد لم نر مصدرها ولم نشعر بتحرك حقيقي لتنظيف آثارها، فإن التضخم متوقع واختفاء المزيد من علامات الدلال القديمة منتظر.
المشكلة، أعتقد، تكمن في نقطتين، الأولى هي في انتفاء الثقة بالحكومة تماماً، والثانية هي في صعوبة التعود على موقع المواطن بعد أن رضخنا واستمتعنا بموقع الرعايا مطولاً.
ونحن بالعموم شعب فاقد الثقة بأفراده وحكومته على وجه الخصوص.
نحن نتشكك في كل شخص يخوض الانتخابات مثلاً، نحفر بعيداً لنقرأ نواياه، نستشعر أنه محمل بطائفيته أو قبليته، نتوقعه منغمساً في تقديم الخدمات وقنص الوساطات، نحتسب له التنفعات القادمة، “لا أحد قلبه على هذا البلد” هو شعارنا، بل أكثر، هو إيماننا الحقيقي الحزين، وهو إيمان ترسخ عبر التجارب المريرة التي لم تدع للثقة بعد أي مجال لتنمو وتتفتح.
تجارب مشابهة ضيعت كل ثقة ممكنة بيننا وبين حكوماتنا. في السنوات العشرين الأخيرة، ومن بعد أمرّ وأخطر التجارب التي مرت علينا في تاريخ بلدنا، تجربة الغزو المرعبة، ما شهدنا سوى ارتفاع في مستويات الفساد وانخفاض في مستويات التنمية والإنجاز، فمن كارثة الناقلات التي لا يزال أصحابها يعيشون بين ظهرانينا مروراً بفضيحة الإيداعات إلى فضيحة سرقة التأمينات إلى غيرها من فضائح صغيرة وكبيرة باتت جزءاً طبيعياً من حياتنا اليومية ومن أخبارنا المحلية، يتبين لنا أننا بلد صغير بمال وفير وعقل فقير، لم يفقه شيئاً من معاني تجربة الغزو، لم تتحرك قيد أنملة ضمائر سياسييه إلا عودة لخلف. أصبحنا جميعاً نعامل البلد وكأنه بئر نفط مؤقتة، من غرف منه قبل أن ينضب “عشا عياله”، وفي ظل كل هذا الجشع والطمع والفساد أين هو مكان الثقة؟
نحن نرفض تماماً زيادة أسعار النفط لأننا متأكدون، أكاد أجزم فرداً فرداً، بأن الزيادات المالية هذه ستذهب لمتنفعين، وستسرق بدم بارد، لن يتحسن بها وضع بلد ولن تتعدل بها شؤون حياة، ونحن نرفض الزيادة كذلك لأننا اعتدنا أن نكون رعايا، حكومتنا ترعانا، كما هي تحاسبنا وتربينا، حكومتنا توفر لنا كل شيء بالمجان أو ما يقرب، تموننا وتدعم كل متطلباتنا، وفي المقابل تراقبنا وتقرر الممنوع من المسموح من كتبنا وموادنا الإعلامية، فهذه طبيعة علاقة الرعية بالراعي، هو يوفر لهم كل احتياجاتهم، وهم يطيعون ويسمعون. فماذا يحدث لهذه العلاقة الأبوية فور سحب امتيازات “الأبناء”؟ ستكون الثورة وسيكون الغضب، وسيأتي الشعب ضارباً أقدامه على الأرض مطالباً بمزاياه، فلم يعد السكوت والقبول مجديين مع أب سحب عطاياه ورفع وصايته.
تعودنا نحن على راحة الرعايا، وفي ذات الوقت لا نستطيع أن نتقبل هذا الدور المشوه لأشباه المواطنين، فإما الراحة التامة للرعايا أو المسؤولية الكاملة بكل حقوقها المدنية للمواطنين، لا يوجد موقع وسط بين الاثنين، ولا يوجد تحول مباشر بين الموقعين، الموضوع يحتاج إلى زمن لإعادة بناء المواطن المسؤول ولاستعادة الثقة بينه وبين حكومة هو يختارها، ومن ثم يقسرها على السراط المستقيم، ودون هذين سنبقى غاضبين متشككين لا نحن من راحتنا التامة ولا نحن من إرادتنا الكاملة، لا نحن رعايا ولا نحن مواطنون، سنبقى كما نحن الآن “رعاطنين” غاضبين.