رصاصة شرعية
ها هو قرع الطبول، يتسارع بفزع، يتواتر برعب، قرع يخلع القلب لم نحسب ليومه حساباً، تجاهلناه على أنه دبيب نمل، ومع اقترابه اكتشفنا أنه دبك فيلة سيسحقنا جميعاً، تلك هي الدولة الدينية التي توعدون من الساسة الإسلاميين، والتي بطبيعتها «زي الفريك ما تحبش شريك»، فيها نوع واحد يسود والباقي يطيع بانكسار وذل.
وها نحن نصطف صفين، ننتظر إشارة من أي أرعن حتى نبدأ مسابقة «شد الحبل»، بينما تقف الحكومة حكماً، من تنزلق قدمه «على الخط» يخرج خارج الملعب وتحذف جنسيته فوق رأسه. وبما أن قوانين الدولة المدنية قد استرخت تماماً على حبال الغسيل الديني، فلتسقط الجنسية عن كل من يمس، والمساسون كثيرون ومن كل الأطراف. طبعاً لن يحدث هذا في الدولة الدينية، فتلك أحادية المنظور، لها عين واحدة على الفريق الأكبر والذي «يجعجع» بصوت أعلى، لا يعم فيها حتى الظلم تحقيقاً لشيء من العدل.
نعم، نعيش في دولة طائفية بحتة، خلقت منا مواطنين طائفيين حتى النخاع، ولو لم تكن ونكن كذلك، لما هز مجتمعنا الحمقى الذين يبيعوننا الخلافات التاريخية بسعر الدولار اليوم. نعم نعيش في دولة طائفية، فانتخاباتنا طائفية، وتوزيع مناطقنا طائفي، وتعليمنا طائفي، وحياتنا الاجتماعية بكل جوانبها مشبعة بالطائفية، وذاك، لعمري هو وعد الدولة الدينية. ففي بلدنا برلمان نوابه مشايخ، كلهم شايخ بلحيته أو عمامته، يصرون على عقد ندوة صارخة لتقابلهم «باقة» مشايخ أخرى بإصرار على ندوة مضادة، مساوية للأولى في المقدار، مضادة لها في الاتجاه، وكله شرعي، «ومافيش حد أحسن من حد»، وليتراقع أهل البلد بعضهم ببعض «حطب دامة» بين الندوات.
نعم، من حق، وأحياناً من واجب، الإنسان المؤمن أن يفزع لمعتقده ويغضب لرموزه ومقدساته، فيتحرك شخصياً أو من خلال مؤسسة اجتماعية أو دينية ليحارب، بالفكر والمنطق، الفكر المضاد التخريبي، فيحول «ضارة» المساس البذيء إلى «نافعة» في إحياء الدراسات والبحوث الفلسفية الدينية.
أما ما يحدث الآن، فهو رقص نيابي على قرع الطبول، هو مسح لهوية الدولة المدنية إحلالاً لمسخ الدولة الطائفية إن صح إطلاق لفظ دولة أساساً على هذه الكينونة البغيضة. وهنا علينا أن نواجه الحقيقة، فالحديث الدائر، خفّت وتيرته أو تعمقت رذيلته ليس بجديد مطلقاً، والاختلافات المذهبية التي تصل في معظمها إلى الثوابت هي مادة تملأ الكتب والأحاديث المسموعة والمقروءة منذ أن انفصل الدين إلى مذاهبه المتعددة.
لم ولن نتفق في يوم، وليس المطلوب الاتفاق ولا حتى تفهم وجهات النظر المعاكسة، إنما المطلوب مهارة في التعامل مع الاختلاف والفن في مواجهة البغضاء الطائفية التي هي وقود الحروب الأهلية، حتى إذا ما خرج علينا بذيء من هذا الطرف أو ذاك ليعلن بوقاحة العلن ما يختلف عليه في السر، نكون قد حصّنا أنفسنا بهدوء الثقة ورصانة الرد والإيمان الطاغي بأن الخلاص هو في الاجتماع على الوطن وعلى قوانينه المدنية التي تحمينا وحقوقنا وليس على أي شيء آخر. وأخيراً، السؤال الملح هو: هل إجراءات الحكومة التي اقتيدت إليها صاغرة ستحد فعلاً من الطائفية البغيضة؟ هل سينتج عن منع الندوات وإغلاق القنوات وسحب «الجناسي» وإقفال المساجد بعد صلاة العشاء مباشرة تخفيف الوقع الطائفي على المواطنين؟
ليت المسألة تقف عند سحب جنسية وإغلاق مسجد، ليت ذلك كل ما نحتاج، إنما طريق الإصلاح الحقيقي يتطلب جهداً عميقاً وتغييراً جذرياً يبدأ من المناهج الدراسية وصولاً إلى النظام العام للدولة الذي يجب أن يكون مدنياً بحتاً دون أدنى ميل تجاه توجه ديني دون آخر. وحتى هذا الوقت، سنعيش على قرع الطبول ورقص النواب… بانتظار قيام الحرب.
«آخر شي»: يجب تحريم، وبفتوى رسمية، قيام معرض الكتاب السنوي تحقيقاً للقاعدة الشرعية «وإذا ابتليتم فاستتروا»، كما أن فيه شبهة بدعة، فلم يكن هناك معارض كتب في صدر الإسلام. كفانا ما أتانا، أطلقوا على المعرض رصاصة فتوى وخلصونا.