«رب قوم ذهبوا إلى قوم… ما لقوهمش»
مجتمعاتنا مجتمعات محافظة تعاني فيها الحريات الشخصية من أمراض فصامية، حيث تظهر هذه الحريات في أماكن وتتخفى في أخرى، تمارس على مواضيع وتُمنع تجاه أخرى، شعار ممارسيها هو الحرية المناسبة في الوقت المناسب ومع الموضوع المناسب وأمام الأشخاص المناسبين، وهو الشعار الذي يهدم مفهوم الحرية من أساسه.
لكن، إذا عم هذا الفصام الظالم، هل يصبح عدلاً؟ إذا تواءمت هذه الممارسات المتناقضة ورغبة الأغلبية، هل تصبح واجبة التطبيق؟ في المجتمعات العربية الإسلامية التي حاولت وما زالت «تمرير» شيء من الديمقراطية إلى أجوائها السياسية، سرعان ما يسيطر عليها حس محافظ متزمت أقرب إلى التطرف، وهذا إن دل فإنما يدل على أن هذه المُحافظَة المتطرفة هي في الواقع رغبة شعبية عامة، لربما ليس لنتائجها الأخلاقية ولا لمواءمتها الدينية، وإنما لسترها للمخفي ومحافظتها على السمعة و»إسكاتها لكلام الناس». ليس أدل على ذلك من حقيقة أن أغلبية جيدة في مجتمعاتنا المحافظة عفريتة حبتين، نجدها تبتسم بمكر وتغمس بطرف عينها بشقاوة ما إن تتخفف من محافظتها بمغادرتها محيطها الملتزم هاربة للغرب «الفلتان» الكافر، لتصبح هناك فجأة أشد تحرراً وأعظم حقيقية ومواءمة مع النفس وأكثر سعادة.
غريبة جداً أوضاعنا، وكأن كلام الناس ممكن أن يكون أكثر إضراراً بنا من الديكتاتورية، وكأن السمعة، أياً كان تعريفها، أهم من الحرية والقناعة والمصداقية، وكأن كل ما يهم هو الشكل «البراني»، أما «الجواني» فطالما بقي مستوراً فالأمور بخير. أول شمة نفس ديمقراطية في مصر جاءت بالإخوان، أول فتحة باب للإصلاح في سوريا أدخلت المتطرفين السنة بين الثوار الحقيقيين، أول محاولة تنظيف عقود الديكتاتورية في العراق أنتجت نظاماً شيعياً أصولياً متطرفاً، وحتى أول برلمان عربي قوي يمارس شيئاً من الديمقراطية الفعلية في الكويت أنتج نواباً أصوليين، وكأنها لعنة حلت على هذا الشرق من أوسطه وامتدت لتشمل امتداداته الجانبية، فكان لتركيا وإيران والجنوب الإفريقي، على سبيل المثال لا الحصر، نصيب منها.
قبل فترة، انتشر في الكويت فيديو لفتاتين تجلسان معزولتين على شاطئ البحر لربما بلباس السباجة، لم تكن الصورة واضحة في الفيديو، حيث يتبين من كلام المصورة أنها ورفيقتها قد «ضبطتا» الفتاتين «متلبستين» وأبلغتا عنهما، ليُظهر الفيديو رجال الأمن متوجهين إليهما وطالبين منهما التغطي أو مغادرة المكان. جاءت معظم التعليقات على «تويتر» تلوم الفتاتين على هذا «الانحطاط» الشكلي، ولم يدُر الكثير من الحديث عن الانحطاط الفعلي للسيدة المصورة ورفيقتها، لا من حيث تطفلها على الفتاتين المعزولتين، ولا من حيث عدم تطبيق مفهوم «الستر» الديني، ولا حتى من حيث لا أخلاقية ولا قانونية التصوير والنشر.
هذه الأيام يدور لدينا في الكويت حوار حول «إباحية» موقع «نتفليكس»، حيث علت مطالبات بحجبه لما يحتويه من «شذوذ وانحلال أخلاقي» ولعدم توافقه مع اللوائح الرقابية، ليمتد هذا الحوار ليشمل معظم دول الخليج على ما يبدو. تفاعل الموضوع كالعادة على «تويتر» ليدور حواره في معظمه حول محتوى «نتفليكس»، وفي أقله حول مفاهيم الحرية والحق في الاختيار، في حين أن مفهوم الإرادة الحرة لزيارة الموقع من عدمها تقتلع المعضلة من عرقها وتنهيها. النت فليكس هو موقع إلكتروني، يذهب له الشخص بمحض إرادته ويسجل فيه ليتمكن من تصفحه، فمن يأتي كل هذه الخطوات أليس بواع لاختياره؟ أليس له الحق في هذا الاختيار؟ ما الذي يجعل الناس يتصورون أن الحكومة، المشكّلة من بشر عاديين، تكتسب حقوقاً أبوية تخولها تأديب الشعب وتربيته، سماحاً أو منعاً، بالمواد التي يُطّلع عليها؟ أي عقلية مسكينة تعمنا تجعلنا نعتقد أن الحكومة هي ولي أمر واجبه أن يضبطنا؟ والأهم، ما الذين يمنعنا من منع أنفسنا عما نعتقده خطأ؟ إذا كان هناك من يتصور أن النت فليكس موقع مضر أو لا أخلاقي أو إثمي، فلم لا يتجنبه وينتهي الموضوع؟ لماذا يتطلب الوضع التدخل الحكومي لتقويم الأخلاق والممارسات؟ كل هذه أسئلة أشبعناها طرحاً وأغرقناها إجابة، فلِم نجد أنفسنا وقد «أخذنا لفة ورجعنا تاني؟».
نعيد ونزيد، طبعاً هناك أسباب واضحة للمناداة «بسترنا» عن «نتفليكس»: تفادي الحرام العام، وتطبيق دور ولي الأمر، وتجنب التهديدات الأخلاقية، والحد من الفساد السلوكي، وهي كلها أسباب -واقعياً- لا تدين «نتفليكس» ولا تحد من مضاره ولا تبرر مطلقاً حظره، فهناك ملايين المواقع غيره التي لها طابع أسوأ ويمكنها أن توقع أضراراً أكبر وأشد. هناك أسباب ضمنية: لا نريد بذل الجهد المستحق في مراقبة وتربية الأبناء وفي تحمل مسؤولية القرار. لذا، على الحكومة أن تطبق رقابة تحمي أبناءنا لترفع عن كاهلنا هذا الواجب الثقيل، وفي الوقت ذاته لتتحمل هذه الرقابة مسؤولية آثامنا: إذا أقرت الحكومة فيلماً وكان فيه أي شيء خارج، على سبيل المثال، فالإثم إثمها لا إثمنا، تطبيقاً للمثل الخليجي العظيم «إرمها براس عالم واطلع سالم». وأخيراً، هناك أسباب خفية تماماً: إن كان من المعيب انتشار هذه المواد المرئية في مجتمعنا، ماذا يقال عنا حال قبولنا وسكوتنا؟ لماذا نسمح بهذه المواد التي يمكن لها أن «تفضح» الممارسات المتحررة والرغبات الكامنة وتضعف من «ذكورية» مجتمعاتنا الصارمة، في حين أننا نستطيع أن نتحرر «ستراً» في غرف فنادقنا في الخارج وأن نعيش حياتنا المرغوبة كما نشاؤها في شوارعه الملعونة مع الإبقاء على تشدقنا بالمحافظة والالتزام حين نعود سالمين؟
قد تكون الغيرة؟ إذا حرمت نفسي التزاماً، فلا أود لغيري استمتاعاً بما حرمت نفسي منه، فهذا حرمان سيصعب علي تحمله وحدي، سيكون أسهل لو شاركني فيه المجتمع بأكمله. وقد يكون التزاماً صادقاً بمفاهيم الحلال والحرام والحماية الأخلاقية والذين دوماً ما يستوجبون التطبيق بصورة جمعية، إما أن تطبق جميعها على الناس كلهم بإرادتهم أو رغماً عنهم، وإما نذهب كلنا للجحيم. غريب جداً أننا في هذا الوقت العصيب الذي تختبر فيه البشرية وجوديتها، نجد أن «نتفليكس» يتهددنا. نحن في الجحيم مقدماً..
لربما هذا هو عدلنا الذي خلقه تعميم الظلم، لربما هذه هي حياتنا التي صنعتها رغبة الأغلبية، لربما هذه هي ديمقراطيتنا التي نستحق..