رائحة الأيام
لماذا تقف أجمل المنجزات المعمارية شواهد على أقبح الممارسات؟ ولماذا تنطوي أعظمها على أفظع أشكال قمع الحريات؟ قصور فخمة مورست فيها أبشع أشكال الظلم، دور عبادة مهيبة أتى أصحابها أقسى درجات القمع، منجزات عجائبية تقف مدللة على دماء سفكت لتشهد للإنسان على أنه أقسى الخلق على هذه الأرض، فمن الأهرامات إلى سور الصين العظيم، من قصر فرساي إلى قصر الحمراء، تستلقي هذه المنجزات العظيمة على الأرض مشيرة باسترخاء إلى آلاف البشر المستعبد الذي قتل طحناً تحت الأحجار الضخمة أو حرقاً تحت الأسواط اللاذعة، ومثلها تقوم بوقاحة قصور الطغاة لتذكر جميعها بسنوات الظلم والاستعباد، سنوات الاستسلام والوهن والذل، سنوات الكرامة المنفردة للرئيس والمهانة الجماعية للشعب.
ها هي قصور صدام حسين تقف بجمالها مقيتة كئيبة كريهة على القلب والروح، ومثلها تشمخ قصور حسني مبارك وأخرى لمعمر القذافي بذات الكآبة الكريهة. قصور تبقى بعد أن يزول طغاتها فقط لتحير الناظرين: ماذا نفعل بهذه المباني الرائعة في جمالها، الكريهة في دلالاتها، الحارقة في ذكرياتها؟ تداول الفرنسيون هذا السؤال طويلاً بعد الثورة الفرنسية حول قصر فرساي، وكان هناك قرار قريب بهدمه، إلى أن استقر الرأي على تحويله متحفاً يذكر الفرنسيون بالدرس الذي كلفهم كثيراً، يضعهم مباشرة أمام ماضيهم القمعي، ويبقي رؤوسهم دوماً للأمام في مواجهة العبرة الإنسانية.
شخصياً أصبحت أتوجس من كل مبنى مبهر، فإبهاره يشككني دوماً في نقائه وفي صفاء ضمائر أصحابه وفي إنسانية الممارسات فيه… ارتبط في عقلي حجم المبنى بحجم جيب أصحابه، عظمة المعمار تشير في نفسي إلى صغر قلب قاطنيه، جماله يشير إلى طغيان وقمع وحريات مسلوبة وكرامات منهوبة؛ هذا غير أن كل هذا المعمار المبهر يجلب نحساً على أصحابه فيتساقطون من تاريخ الإنسانية، فينتهون وتنتهي القصة العظيمة للمبنى معهم.
أدرك تماماً أن ما أقوله شاذ لحد الإضحاك وتعميم لحد السذاجة، ولكنني لا أستطيع أن أقاوم هذا التشاؤم المضحك، ولا أن أتغلب على سذاجة تعميمه، ومن هنا بت أخشى المدينة الجامعية الموعودة في الشدادية بجمالها وضخامتها وتطورها المهيب، فها هي ستقوم على نقيض الحريات، ها هي ستعلو طابوقة فوق طابوقة على فكرة جنسية العلاقة بين الطلبة، على فكرة فقدان الثقة بهم ومن أنفسهم بما يستدعي فصلهم التام في مبان متباعدة منفصلة. مدينة جامعية كاملة، رائعة التصميم، مبهرة التكنولوجيا، فائقة التطور المعماري، والفكرة الرئيسة في إنشائها هي فصل الجنسين وعزلهم عن بعضهم بعضا وكأنهم مخلوقات ضارية ليس لها إرادة فوق غرائزها. يا لضياع الأموال والجهود، فالعلم، كما يقال، «في الراس وليس في الكراس»، والتطور الأكاديمي في الفكرة وليس في المبنى، فما الفائدة من مبنى يمثل كل مظاهر تطور القرن الحادي والعشرين، وعقلية تقدم مضامين القرن الرابع عشر؟ كيف سيتحمل المبنى هذه العقلية؟ وكيف يمكن لهذه العقلية أن تتعايش وتطور المبنى؟
وما الميثاق الجامعي الذي تتبناه إدارة التطوير والتدريب في الجامعة، والذي وصفه المستشار الإعلامي لمكتب الأمين العام «بالميثاق الأخلاقي»، إلا لون فكري آخر صارخ على التناقض وحداثة المبنى الجديد، فهذا الميثاق يرفض أن يعبر موظفي الجامعة عن آرائهم في المؤسسة التي يعملون بها بادعاء رفض الإساءة للجامعة دون أن نعرف تحديداً ما يشكل إساءة، وهو يفرض مظهرا لائقا يتوافق مع العادات والتقاليد العربية الإسلامية العريقة، دون أن نعرف تحديداً ما يؤطر هذا المظهر: هل هي العباءة الخليجية أم هي التنورة القصيرة وكلاهما صورتان للعادات والتقاليد؟ ومن سيحدد «المظهر اللائق» ويعاقب الخارجين عليه؟ تقييد للرأي في الصرح الأكاديمي الأعلى في البلد، ووصاية على المظهر في القاعات التي نعلم فيها أن الحرية هي أغلى ما يمتلك الفرد، وأن هذه الحرية مسؤولية يتحملها صاحبها ونتائجها، كيف نعلمهم هذا المبدأ فكرياً والصرح ذاته يسحبها منهم فعلياً؟ إلى متى نربك الجيل الجديد بهذا التناقض، نقول شيئاً ونسن غيره، في منهج غريب اتبعناه من أصغر إلى أكبر وأخطر مؤسسات دولتنا وصولاً إلى الجامعة ومجلس الأمة؟
بت أخشى المبنى، أخاف الجمال المعماري الذي يبدو أنه لا يقبل إلا بثمن باهظ… والجامعة، آه ما أجملها!! متفرقة في أنحاء الكويت، أجزاء من مبانيها قديمة موروثة من ثانويات قديمة، بعض صفوفها عشوائية، وبعض مكاتب أقسامها غير مرتبة، ولكنها رائعة، قادمة إلينا من عادات وتقاليد نفتخر بها، مبنية على تلك الفكرة التي صنعت دولتنا الحديثة: المدنية والأكاديمية الحقيقيتين… فاتركوها بمبانيها العبقة بجمال و»تطور» الماضي، فمازالت رائحة تلك الأيام تسكنها.