ذكرى وعِبر
تمر علينا يوم كتابتي للمقال هذا الذكرى الواحدة والثلاثون لغزو العراق للكويت، يوم مفجع للكويتيين خاصة ويوم انحناءة خطرة حادة في المسار العربي عامة. لقد أظهرت فاجعة الغزو، كما هو حال الفواجع والكوارث عموماً، هشاشات وأخطاء وتراكمات مريضة عدة أوصلتنا كمنطقة خليج وشرق أوسط عموماً إلى ذلك المنعطف الخطير.
لطالما كان التاريخ السياسي المتأزم الطويل بين العراق والكويت محل جدل وشد وجذب بين الباحثين والمؤرخين كل حسب أيديولوجيته وتوجهه، وهو تاريخ وصل لمفترقات خطرة مثلما حدث بتفعيل عبدالكريم قاسم مرة وصدام حسين مرة أخرى لأطماع وأفكار لطالما بقيت طي التصريحات المتهورة التي كانت تظهر بين الحين والآخر لتثير زوبعة وتختفي سريعاً، وذلك حتى يأتي عصابي متهور فيحول النظريات المنحازة إلى مهمات عسكرية، لتقع الكارثة وننزلق جميعاً في الهاوية.
وفي ذات الوقت الذي تتصارع فيه الأيديولوجيات والقراءات التاريخية، يتفاعل الناس مع بعضهم بطبيعية: فهناك روابط دم ونسب قوية بين الكويتيين والعراقيين، وهناك زيارات مستمرة لم ينقطع الكويتيون عنها للعراق أو عتباتها المقدسة، خصوصاً بالنسبة لشيعة الكويت، وهناك عراقيون عاشوا أعمارهم في الكويت فلم يعرفوا غيرها بلداً، وهناك جذور أصولية عميقة تربط الطرفين. هذا الترابط الإنساني يتصادم باستمرار مع المطامع السياسية صانعاً “ليمبو” أو منطقة تجريدية غرائبية يعيش فيها الشعبان المتجاوران.
وللخروج من هذا القمقم المخيف، لابد من وقفة مصارحة ومواجهة للذات، وتلك ما تفتقر إليه الشعوب العربية بسياسييها، فلغة العاطفة المبالغ بها تحكم العام ولغة الصراعات التآمرية تسيطر على الخفي الخاص.
نعيش نحن الشعوب العربية مبالغات معلنة ومؤامرات خفية طوال الوقت، ما يجعل أي إصلاح حقيقي وجذري عصيا على التنفيذ. على العراقيين أن يقفوا وقفة مواجهة مع أنفسهم وتاريخهم والأسباب التي أوصلتهم اليوم لسيطرة هذا النوع من القيادة عندهم والتي فجرت انحيازاً طائفياً غير مسبوق وأدخلت العراق في علاقات سياسية دينية تلوح بانهيار قريب.
الوجود الأميركي في العراق سبب، قاد إليه تعذر المساعدة العربية للكويت وقت الغزو، وهو تعذر أو تقاعس أو تخوف سياسي أدى بدوره إلى النداء العالمي للمساعدة الذي وجهته الكويت وبقية دول الخليج لدول العالم أجمع، والذي هو نداء أدى لهذا الوجود الأجنبي في المنطقة، وكل ذلك كان بسبب قرار صدامي ديكتاتوري أرعن أدخلنا جميعاً في الحائط.
ولهذه القصة الحديثة جذور قديمة فرَّعت صراعات رمت بثمرها المر في زمننا الحديث، ذلك أن دولنا العربية ذات القوالب الحديثة تعيش أفكار ومبادئ وحيوات قديمة جداً بداخلها، هي دول لا تزال تتصارع على أسبقية تاريخية وامتدادات عرقية وانتصارات طائفية وأحقيات دينية مطلقة تجعل من التفاهم على أساس المبادئ المدنية الحديثة ضرب من الخيال.
على العراقيين دور في أن يتأملوا ويراجعوا ويعيدوا فهم التاريخ ليخرجوا من المأزق، ولكن هذا الدور لا يقتصر عليهم، بل حقيقة هو يكبر ويتعاظم علينا نحن، دول الخليج. هناك وقفة مواجهة مستحقة تفرض علينا التساؤل: من الذي صنع صدام حسين؟ بأي أموال؟ من الذي كان يسند ظهره فيما هو يحفر المقابر الجماعية للعراقيين ويقتل أهل بلده بالكيماوي ويضرب الجار الإيراني بالقنابل الحارقة وينشر مخابراته الفاشية في أرجاء الوطن العربي؟ هذه مواجهة مستحقة، أين وكيف تصرف أموال الخليج الطائلة وأي نتاجات وتبعات لطريقة صرفها وتوجيهها؟
الكويت، رغم كل ما عانت من الغزو وتبعاته، ورغم خسارتها لأرواح لا تعوض وثروات لا تجدد، إلا أنها اليوم، هي وبقية دول الخليج، بكل تأكيد أفضل وضعاً من العراق، هي دول في المركز الأكثر ارتياحاً وهذا يتطلب تقييما حكيما من السياسي القوي المستقر لعلاقته مع ووضعه تجاه السياسي المتوتر المصاب.
هذا التقييم المطلوب لا يستدعيه فقط الموقع السياسي والاقتصادي والأمني الأفضل لدول الخليج، ولا يستدعيه فقط الدور الخليجي المؤثر في المعاناة العراقية، ولكن كذلك تستدعيهما الجيرة والروابط الإنسانية التي لن يتم تفكيكها أبداً في يوم. علينا أن نجد طريقة لتحقيق السلام الكامل ولتمكين الغفران الحقيقي، غفران مُبَرَّر مفهومة أسبابه، غفران لن يحقق النسيان ولكنه سيساعد على الاستفادة من التجربة المريرة، ذلك أننا لا يجب أن نخسر درس التجربة وفي ذات الوقت لا يجب أن نخسر أمن وأمان جيرة لن تتغير أبداً إلا إذا انكسرت قارة آسيا من منتصفها.
اليابان تعدت أكبر كارثة اعتدائية في تاريخ الإنسانية، وما تعاملت مع أميركا بروح الضغينة المستمرة، بل وجهت طاقاتها لإعادة البناء في تركيز كبير على هدف محدد وهو تحويل اليابان لطاقة اقتصادية كبرى في العالم، وهو ما تحقق اليوم بنجاح كبير.
علينا أن نحذو هذا الحذو الواقعي اليوم في منطقتنا العربية تعاملاً مع كل أزماتنا السياسية. نعم، لا ننسى، ونعم نبقى نحتفي وننعى ذكرياتنا التاريخية، ولكن، لا يجب أن نتجمد عند أحزانها وكراهياتها. الواقع وطبيعة الحياة المستمرة التي تنسى ولو أبينا نحن النسيان، كل ذلك يفرض علينا تعاملا براغماتيا نوعاً ما حتى مع أشد الأحداث السياسية عاطفية.
لا زال الكويتيون يستذكرون مثلاً طرف الموقف الفلسطيني المؤيد للغزو، لا زالوا يتذكرون تصريحات “دول الضد” التي طالما ساعدتها الكويت، وهذا كله مؤلم ومؤثر بكل تأكيد، ولكن علينا كذلك أن نتذكر تاريخنا الطويل الحافل مع الفلسطينيين ودورهم العظيم في المساعدة في بناء الكويت الحديثة. علينا أن نتذكر العلاقات الوثيقة التي كانت بيننا وبين “دول الضد” وطبيعة القيادات السياسية التي كانت موجودة إبان فترة الغزو والتي فرضت الموقف في حينه.
علينا ألا ننسى المبدأ القرآني أن “لا تزر وازرة وزر أخرى” فلا نعمم الأحكام، ولا نطبق المفهوم السيئ للمعاملة بالمثل، وهي كلها توجهات أخلاقية مفعلة إلى حد كبير بين معظم الكويتيين الذين عادوا لاحتضان الفلسطينيين ولم يتخلوا إلى اليوم، رغم تخلي الكثيرين وما صاحب ذلك من ضغوط سياسية على الكويت، عن القضية الفلسطينية العادلة. اليوم نروم تفعيلاً جمعياً للتوجهات الأخلاقية التي يجب أن تحكم علاقات شعوبنا، نريد أن نطوي الصفحة دون أن ننسى عبرها ودروسها.
اليوم يوم حزين بلا شك، خصوصاً لنا الكويتيين الذين عاصرنا، وبالتالي نعي ونتذكر، تلك الأحداث الأليمة، ولكنه يجب أن يكون يوم تفكر واعتبار لدروس تتجدد لنا جميعاً في هذه المناسبة الحزينة. الحمد لله على سلامتك يا كويت يا حرة الخليج، وألف سلامة عليك يا عراق، يا شعلة الثقافة والحضارة العربية. عسى أن تتضح الدروس ويعم السلام.