ديفيد
محدثتكم من فلورنسا… أكتب لكم الآن من ساحة «دوومو» وسط المدينة التاريخية، ومثل الأفلام القديمة والأيام الآفلة، أكتب بالورقة والقلم رسالة لأحبة غائبين أكثر منها مقالة لقراء مجهولين. لا يمكن أن أكتب من فلورنسا سوى بأسلوب المحبين القدماء، ورقة وقلم وفنجان قهوة، مقهى ونادل وأرض حجرية ومبنى عريق، قلب يرتجف بالأشواق وحلق يغص بألم الفراق وحواس متطايرة بمتعة اللحظة الآنية بكل ما فيها من جمال وعراقة وحرية.
تواجهني الآن الكنيسة المعمدانية لسانت جيوفاني، وكأنها خلفية مرسومة لحجاجها الطوافين بقبعاتهم وحقائبهم، يرفعون الكاميرات عاقدي «النونة» إعجاباً وتهيباً، يمتد المبنى طولاً وعرضاً خارج حدود نظري، لا أستطيع أن أحتويه بلقطة، كل شيء هنا أكبر من مساحة الرؤية وأوسع من حدود النظر فهو يمتد من تاريخ سحيق، فكيف للعين العصرية أن تحتوي هذا التاريخ على امتداده بنظرة، دع عنك أنها عين عربية، عين لم تعتد وقوف التاريخ شاهد ثقة محايد على كل ما كان، وكأن الماضي يعتذر من الحاضر برضوخه لعبث السواح، وبتحول وقائعه المرعبة وشواهده العظيمة الى مجرد متحف للصور والعبر.
أريح عيني من جسارة المبنى اللامتناهي أمامها، فأرمي بها على البقعة الحجرية أسفل قدمي، أنكمش على نفسي برعب لحظي، تلك بقعة صبغتها دماء قديمة ودكتها أقدام صارمة وتتابعت فوقها خطوات الخوف والعذاب، صور تاريخية متتالية توالت على هذه البقعة لتروض فلورنسا الجامحة لأخرى خلابة لا يمكن التعبير عن جمالها سوى بزفرات حارة من أعماق النفس.
أتمشى من ساحة إلى أخرى، فالساحات التاريخية المهيبة متقاربة جداً في قلب المدينة بشكل يدير الرأس، كيف يتكوم كل هذا التاريخ المهيب ها هنا في هذه البقعة؟ أما من قصر أو كاتيدرائية ننقلها إلى الكويت علّها تعلمنا شيئاً عن الدماء المهدورة بطغيان السياسة وتسييس الدين؟ في الجو هنا رائحة لا أعرفها، للبشر «رتم» يصعب علي تتبعه، فهم يعيشون التاريخ، ويبدو أنهم يدركون ذلك تماماً. ما أن تفتح باب مأواك ها هنا حتى تنتقل مباشرة للماضي السحيق وكأن الباب آلة زمن تنقلك من عصرية الخدمات الداخلية إلى أثرية المحيط الخارجي، في لحظة تجد نفسك في قلب قرون مضت… تصبح جزءاً من القصة ولون آخر في اللوحة.
تلك مدينة يحفها التاريخ ويزينها الفن بشكل طبيعي انسيابي، يشكل الفن ها هنا الجزء الأكبر من الذاكرة النفسية والتركيبة الوجدانية للأفراد وهم يتعاملون معه كواقع يومي مرئي ومسموع. هؤلاء قوم يمرون على تمثال «ديفيد» لمايكل أنغلو كل صباح في ساحة «ديللا سينوريا» دون تكلف، دون هذه الشهقة التي تأخذ علي أنفاسي كلما مررت بالتمثال المهيب وقد تعلق رأسي صوب السماء انبهاراً به أو رفقائه «بيرسيوس» أو «هيركيوليس وديوميديس» وغيرهم وليلتوي كاحلي على الطرق الصخرية الملساء الوعرة، فأبدو كسائحة عربية تفتقر وبجدارة إلى «رتم» التجول التاريخي الذي يأتي طبيعياً «لكواحل» أهل المدينة. أتحامل وأكمل المسير بانجذاب المشدوه، تطالعني المتاجر الراقية الصارخة في حداثتها من قلب المباني التاريخية، يتشتت عقلي بين النقيضين المتعايشين بسلام، وأكاد أصرخ بشغف: كيف فعلتموها أيها الفلورنسيون؟ لم لا نستطيع نحن أن نوائم بين اختلافاتنا ونصنع سلاماً مع تاريخنا؟ ها هو «شانيل» يطل عليّ بترفع من مبنى قد يكون سكانه من أفقر الفقراء في سالف الزمان، أبادله التجاهل، لا أحبه، وإن أردت، لا أستطيع أن أحبه. أتجه مباشرة إلى متجر صغير يجاوره، أنتقي حقيبة تتزين بلوحة جريئة للفنان كليمنت، أستغلي ثمنها ثم أتذكر «شانيل»، أسترضي نفسي وأقتنيها نكاية في المتجر الغالي المتعالي. «أتمختر» سعيدة «بشروتي» على الرغم من ألم الكاحل واهتياب نفسي واغتصاص حلقي الدائم بالأشواق. أعود فأقف أمام «ديفيد»، أسأله ألف سؤال، يتطلع إليّ بعينين حجريتين بازغين، تهشني يده الصخرية، وتصرفني شفتاه الملساوان: أن لن تفهمي أيتها العربية، فأنا أقف على بحر من الدماء، فهل أنت مستعدة لدفع الثمن؟
«آخر شي»:
ياسر حبيب طعن في أرفع مقدسات السنّة ومبارك البذالي «لعن أسلاف» الشيعة، وتراشق المتراشقون بقيادة نواب الأمة، خلصنا؟ فك الفك؟ أم لايزال في الجعبة المزيد من الرماح المسممة تطعنون بها الوطن والدين والأخلاق؟
«آخر آخر شي»:
لأنه زمن حبيب والبذالي، يرحل أبوزيد والبغدادي والقصيبي والآن محمد أركون، يبدو أن الدنيا لا تسع كل هذا التناقض الصارخ، وفي زمن الابتذال، يغادر العلماء، ألا رحمة الله عليهم أجمعين.