دموع الملائكة
وقفنا نحوطها، أعلى قامتها تصل إلى خواصرنا، شعرها أسود كالليل يتدلى إلى حيث كتفين رقيقين يتصلان بذراعين نحيلتين، تمتدان إلى كفين صغيرين تدعك بهما عينين، سبحان من سواهما، وقد غارتا بدموع، وقفنا جميعاً صامتين عند ضفاف نقائها. لم تتجرأ إحدانا بالحديث، لم نتفوه بأي كلمة طفولية منمنمة معتادة لتطييب الخواطر الصغيرة، أخذنا جلال الموقف فوقفنا بصمت، نحوطها، لم نجرؤ حتى على أن نربت على رأسها، وكأن الكلمة أو اللمسة ستربك الموقف المقدس، ستقطع على الملائكة متابعتها لهذا الألم المتجلي في السنوات السبع، فآلينا أن نحوطها بصمت، هي تنشج بهدوء ونحن نبلع ريقنا ونقاوم دموعاً ستبدو خاوية أمام جلال دموعها. كلنا غارت علينا الأيام بصورة أو بأخرى، خذلتنا الدنيا أحياناً وأحزنتنا أحايين، لكن في السابعة؟ هل بكينا خذلان الدنيا وظلمها ونحن ننطوي على سبع سنوات من العمر فقط؟ أي دنيا هذه، أي مجتمع، أي حياة تقبل أن تنشج ابنة السبع سنوات قهراً وألماً وشعوراً بالظلم والذل؟ كيف نحيا ونضحك ونأكل ونتسوق ونسافر وجمانة تغسل كفيها الصغيرتين بدموعها، تفرك عينيها وتداريهما بخصلات شعرها، ترتجف بنشيج لا يليق بالسنوات السبع؟ كيف سنحيا نحن، من شهدنا جلال حزن الصغيرة، بعد أن رأيناه بأم أعيننا، بعد أن سمعناه بآذاننا، بعد أن تجرأنا ولمسناه بأيادينا؟ جمانة، ابنة السبع سنوات، طفلة بدون كويتية، كل ما فيها ينضح بكويتيها، وجهها الحنطاوي، عيناها السوداوان، لهجتها المحببة، مكان ولادتها، تاريخ عائلتها، كل شيء يصرخ بكويتيتها. جمانة أخبرتنا أن لديها قصيدة تريد أن تنشدها لنا، فاستحسنا ووقفنا ننتظر إنشادها، وليتنا لم نفعل، ليتنا لم نقبل، أنشدت جمانة، فتحدثت عن الحرمان، عن كونها مجهولة، محرومة، عن مدرسة تشعر فيها بغربتها عن أبناء عمومتها المتمتعين بخدمة المدارس الكويتية الحكومية، وفجأة توقفت وبدأت بالنشيج، بكاء هادئ مكتوم يحرق القلب. انتحيت بوالدتها جانباً وعاتبتها “لم تحفظين البنت قصيدة مؤلمة بهذا الشكل؟” ابتسمت والدتها بحزن وقالت: “إنها أوجاع جمانة الحقيقية لم نؤلف لها شيئا ولم نزد عليها شيئا. جمانة محروقة لأنها لا تشارك بنات عمومتها ذات المدرسة، مقهورة لأن ورقة المستوصف دوماً تقول “مجهولة”، وأكثر ما يقهرها هو أنه ليس لديها جواز تسافر به، تود أن تركب طائرة ولا تستطيع، كل العائلة توقفت عن السفر احتراماً لقهر قلبها”. عدت لآخذ جمانة في حضني، تملصت وتمسكت أنا بها، تشبثت بيديها ورأسها وأبقيتها في حضني هي تبكي وأنا أحتضنها علّني آخذ شيئا من ألمها إلى صدري، علّني أنقل لها شيئاً من الأمان، عندي منه الكثير الذي حرمته الدنيا عليها. “يا جمانة كل شيء سيتصلح، بحق دموعك سيكون لك جواز سفر، أنت مو مجهولة حبيبتي أنت كويتية”، ما إن سمعت الجملة الأخيرة حتى فرفرت في يدي وانطلقت إلى والدتها بذات النشيح المكتوم. تواصلت “نهنهة” جمانة إلى باب الخروج، غادرت وصدى نشيجها يتردد ألماً حارقاً في قلوبنا وضمائرنا. لم يكن في الموقف أي شيء متكلف، كان هناك ألم خالص وقهر خالص لا أعرف كيف تفهمه وتشعره ابنة السابعة. هل فعلاً يدرك أطفال البدون وضعهم هذا؟ هل فعلاً يعيشونه بحذافيره حتى ينضح بهكذا ألم؟ ألم تحمهم طفولتهم من استيعاب الموقف إلى حين على الأقل؟ ألا يتأجل الألم والقهر إلى حيث سن البلوغ عندما يكبرون ويتواجهون وظلم الدنيا؟ هل فعلاً تبدأ المواجهة في السابعة؟ لم أكن أدرك أنهم مدركون لهذه الدرجة، ولا أدري كيف نستطيع أن نعيش مع أنفسنا كل يوم، وجمانة بسنواتها السبع تبكي بهذه الحرقة. صغرت الحكومات وتحلحلت اللجان والأجهزة المركزية، واحترقت القرارات وتفتّتت العنصريات، كل شيء سقط أمام جلال طفولة جمانة وتحت وطأة نشيجها، كل ما بقي هو نحن، كباراً نصلب أطوالنا حولها، وصغيرة تعلو قامتها إلى خواصرنا، تفرك عينيها بدموع ملجمة، يهتز جسدها بنشيج مقدس، ونحن نحوطها وكأننا نسيجها بأجسادنا من قهر الدنيا ولو لدقائق معدودة، بدت وكأنها دهر طويل، كم يطيل الألم دقائق الزمن.
“آخر شي”: مبارك عليكم الشهر الفضيل، عله يستقدم معه شيئاً من العدل والرحمة والإنسانية المفقودة، فتعود البسمة إلى ملائكة الأرض وتضحك جمانة.