دخول الحمام مش زي خروجه
نحن شعوب تحيا دوماً على الحافات، على الخطوط الفاصلة، في مساحات غريبة، لا هي مدنية ولا هي قبلية قديمة، لا هي ديمقراطية ولا هي ديكتاتورية خالصة، خلطات من متناقضات تجعلنا نحيا باستمرار بين البينين، في مساحات مبهمة، حيث الشي ونقيضه، وبما يخالف القوانين العلمية، يتحققان ويتوازيان.
نحن نحيا في دول «حضارية» لها دساتير حديثة وقوانين مدنية، فيها شوارع مرصفة ومبان مرتفعة، تجري فيها المياه المكررة وتخدمها القوى الكهربائية، إلا أن أهلها غير قادرين ذهنياً على الانتقال التام إلى هذا الحيز الحديث. الانتقال جسدياً سهل، ولدوا له واعتادوه، إلا أن الانتقال الذهني لا يزال عصياً خصوصاً في وجود منظومات فكرية لا تزال تصر على الإبقاء على الحيز الذهني الماضوي، وخصوصاً مع تناقل المنظومة العاداتية والتقاليدية الغائرة بين الأجيال سحباً لها الى الحيز الزمني الحديث. وعليه انخلقت هذه الكينونة الغريبة، من الخارج شكلها «موديرن» ومن الداخل منحوتة بالماضي وأفكاره ومعتقداته.
نريد ديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية، لكننا نضع أمامها كلها ألف خط أحمر من حرام، ولا يجوز، وعيب، ونكبلها بألف وصف مثل مساس، واستهانة، وخروج عن العقيدة، وازدراء أديان. كيف يمكن لدولة مدنية حديثة أن يكون في تقنينها عقوبة على رأي في دين أو عقيدة أو انتقاد لمسؤول أو اختيار حر لأسلوب حياة؟ كيف نريد تشريعات مدنية ونطالب ببرلمانات متحضرة، ونعتقد في إمكانية التشريع من خلالها بعقوبة حبس بسبب نشر كتاب أو مجرد تغريدة؟ كيف يمكن تخيل، مجرد تخيل، معاقبة ملايين من المواطنين بسبب امتناعهم عن الإدلاء بصوتهم والذي يعد الإمساك به حقاً لهم تماماً كما هو الإدلاء به؟ دول غريبة التكوين، تريد الديمقراطية ثم تستخدمها للتقنين القمعي بالمواطنين، تهتف بالحرية ثم تسعى لتشريعات تكبل الحريات وتضع ألف خط أحمر أمامها. أي فصام في الشخصية المدنية هذا؟
ولربما ليس أدل على الفصام التشريعي للبرلمات والذهني لشعوبها من وضع المرأة في الدول العربية «ديمقراطية». برلمانات ترفع شعارات الحقوق المواطنية والمساواة، وشعوب تتغنى بقيمة المرأة ومكانتها الاجتماعية والدينية والجنة التي هي تحت قدميها، ثم تُقهر هذه المرأة من خلال قوانين الجنسية والقوانين الإسكانية وقوانين الرعاية الحكومية، وطبعاً قوانين الأحوال الشخصية، تماماً كما تقهر من خلال الرأي العام والأحكام الاجتماعية والتقاليدية. المرأة لا تصبح أسرة هي وأبناؤها في معظم الدول العربية بلا رجل، فهو ما يضفي صبغة الأسرة على «المجموعة». لذلك، فإن الرعايات السكنية والمساعدات الحكومية للأسر بأشكالها المختلفة في الدول المختلفة بالغالب لا تقدم إلا إذا كان في الصورة رجل. الجنسية هي الأخرى، والتي هي موضوع مدني حديث بحت لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بدين أو عقيدة أو عادة أو تقليد، هي حق توريثي خالص للرجل في كثير من الدول العربية وبالأخص الخليجية، «يسبغها» على أبنائه بحكم ذكوريته فيما المرأة تمتهن هي وأبناؤها «الأجانب» لتعيش في بلدها غريبة معزولة. يقولون دولة مدنية حديثة، ثم يشرعون الجنسية كما اسم الطفل وديانته لتتبع الأب، ويقولون دولة ديمقراطية، ثم يقننون بغرامات وحبوسات بسبب مقال أو بحث أو كتاب أو حتى تغريدة، ويقولون دولة مساواة، ثم يرصون قوانين أحوال شخصية تضع المرأة رهينة في يد الرجل، فـ«دخول الحمام مش زي خروجه» والدخول في الزواج يحولها مملوكة لا فكاك لها سوى بقرار، في الواقع بلفظة، من لسان رجل قد يكون هو أرعن خلق الله، وفي أحسن الأحوال يمكنونها من شراء نفسها، لتخلع نفسها من زوجها برضاه وبالسعر الذي يريد. ما أجمل دولنا المدنية الحديثة!
المصيبة أننا شعوب غير ناجحة حتى في ادعاءاتنا الأخلاقية والفضائلية. ليس الجميع بكل تأكيد، ولكن بأعداد هائلة تحول الوضع الشاذ إلى ظاهرة منتشرة. سرقات وفساد وغش، بنوعيه المادي والتعليمي، ووسائط وتحرش وكذب وتصديق بالخرافات، حتى في سياقة سياراتنا في الشوارع نفتقد لقيم التأدب الحركي، لا نقف في طوابير ولا نعتقد بقيمة «الغرباء» في بلداننا… الحلال نجد ألف طريقة لتحريمة، والحرام نجد ألف فتوى لتحليله، حتى لنبدو أننا نعيش بوجوه متعددة طوال الوقت. حياتنا كلها عبارة عن تقسيمات لتقسيمات، وتفريعات لتفريعات، لا ينتج عنها سوى مزيد من انقسامنا وتفرقنا. بس الحمد الله، الدنيا هذه للكفار، والآخرة لنا.