دجاج
يدور إعلان لبيع بيض دجاج حر، أي دجاج ليس حبيس أقفاص، ويا لسخرية القدر، من خلال الواتس آب «العربي» بكثافة هذه الأيام، حيث يضاعف الإعلان قيمة هذا البيض الذي يكون عالي الجودة وأكثر صحية بسبب حرية دجاجاته وربما كذلك حرية ديوكه. مباشرة تراءت الفكرة، كيف أن الحرية تنتج كائنات أفضل، تنتج طبيعة أفضل، أخصب وأكثر توافقاً وهارمونية، كيف أن الحرية تصنع بشرا أخلاقيين، يتجنبون الخطأ عن مبدأ ويأتون الصواب عن قناعة. الحرية عدوة الزيف وصديقة الصدق، في ظلها تظهر الحقيقة ويختفي النفاق ويسود المجتمع الهدوء والرضا، في وجودها ينتفي الشعور بالغضب وتتضاءل الحاجة للثورة، فليس من دواء للغضب كما القدرة على التعبير عنه، ليس من خامد له كما تنفيسه وإطلاقه، لذا تطلق الحكومات الذكية الحريات لأفراد شعوبها الذين يخدرهم التنفيس وتهدئ قلوبهم حرية التعبير، حتى ولو توقفت هذه الحرية فعلياً عند حد التنفيس والتعبير، فحتى وهم الحرية يصنع بشرا أفضل ومجتمعات أكثر مصداقية وأخلاقية.
والحرية، وحتى وهمها في الواقع، لا يمكن أن يكون لها حدود، فمتى ما حدت الحرية بحد ما، تغيرت هويتها تماماً، لربما تصبح إختيارا محدودا أو رأيا مبتورا، لكنها فعلياً لا تعود حرية بمعناها الأخلاقي الفاضل. بكل تأكيد للحرية حد عند الإيذاء الجسدي للآخرين وعند الكذب عليهم أو إتهامهم زوراً وبهتاناً، لكن حرية الرأي، حرية التعبير بالكلمات، لا يمكن أن يكون لها حد، لا يجوز أن يظللها سقف، حتى سقف الإيذاء النفسي، والذي رغم وجود مفهومه حتى في أكثر الدول تقدماً، الا أنه مفهوم محدود وبعيد جداً. فمن الصعب بمكان حبس حرية رأي إنسان في المجتمعات الغربية بتهمة إيذاء مشاعر الآخرين التي غالباً ما تأخذ مكانا متأخرا جداً من الحرية، ويبقى قانون «معاداة السامية» وصمة عار في جبين مجتمعات تقدس الحرية وتعليها على ما عداها. ولكن، والسؤال الأهم بالنسبة لنا هو، كم لنا من نصيب في هذه الحرية؟ كيف نقارن أنفسنا، بشر المجتمعات العربية، بدجاجاتها الحرة ذات البيض الصحي مرتفع القيمة؟
لا بد أن أشير الى أننا في الكويت نستمتع بالدرجة الأعلى عربياً من وهم الحرية، فلدينا برلمان حقيقي ولدينا حرية صحافة على درجة عالية من التأثير، ولدينا عمل مؤسساتي واضح ومنظم، إلا أنه لدينا كذلك مال سياسي وعلاقات متشابكة معقدة وفكر أبوي قوي يظلل هذه الدولة الصغيرة الساعية بحثاثة تجاه الديمقراطية بظل كثيف من الأبوية والقبلية الغائرين في القدم. في مصر، قامت ثورة باسم الحرية والإصلاح أسقطت نظاما ضرب جذوره الفاسدة عميقاً في الأرض، إلا أن النظام العسكري سرعان ما عاد ليطفو على السطح، متربعاً بكل أريحية على كرسي الحكم، ومعيداً التمثيلية الانتخابية ذاتها التي كانت في السابق، ليتم القبض على كل منافس حقيقي للرئيس الحالي، وليتم تجميع تفويضات له ستبقيه على كرسيه، على ما يبدو، عمره كله، ليعود النظام الملكي السابق الذي كان متخفياً تحت غطاء نظام جمهوري، ولتودع الحرية التي فقد شباب يانع عمره من أجلها، في صناديق انتخاب وهمية. وهكذا هي حياتنا، في كل دولة عربية قصة، سردها يحتاج لمساحة وزمن ونَفَس غير متوفرين.
في الأردن، في العراق، في لبنان، في الإمارات، في الكويت، في مصر، وحتى في تونس، دون تعداد الدول العربية الأخرى ذات الظروف الأكثر صعوبة، تجدنا نقف دوماً بين إختيارين: إما حريات شخصية نسبية دون السياسية، الإمارات ومصر مثالاً، أو حريات سياسية نسبية دون الشخصية الكويت والعراق مثالاً. هذه في الواقع ليست حريات، لا ترقى حتى أن تكون وهم حريات، هذه مقايضة نحن الشعوب دوماً الخاسرين فيها.
على كل الأحوال، الشعوب العربية وقعت، ودوماً ما تقع، في حب سجانيها ومعذبيها، لربما تقع في حب فكرة السجن والتعذيب ذاتيهما، غير قادرة على التصرف والحركة دون القيود، غير متمكنة من الاختيار في ظل الحرية المطلقة. فالحاكم أب ورجل الدين نبي، وكل فرد عربي مؤتمن على هذا الأب وهذا النبي، حتى تحولنا جميعاً الى حماة لسجانينا ومعذبينا.
عموماً، يبدو إعلان البيض الحر فأل حسن، ها هو الدجاج العربي يتحرر والعقبى للبشر.