«دام راسي يشم الهوا»
حين تكر سبحة الآلام لا يوجد ما يوقف تدفق كراتها الصغيرة المتلاحقة، تتناثر حولك حتى تملأ عليك النظر، فتتساءل، كيف لم أر كل ما أرى قبل أن أمد يدي للخيط وأفرط السبحة؟ منذ أن بدأت الكتابة عن الحالات الفردية للبدون الكويتيين، والقصص تتدفق، مليئة بالدموع الساخنة والآهات، معجونة بالزفرات والشهقات، أستمع إليها كاملة رغم أنني أعرفها وأحفظها عن ظهر قلب بعد أن عملت في القضية منذ ما يزيد على عقد من الزمان، أكاد أرى الوجوه والأيادي والعيون خلف الأصوات القادمة عبر الهاتف، الآن يد ترتجف، هذه اللحظة دمعة تترقرق، أترقب لحظة الانكسار، حين تنهزم العزيمة القوية التي يبدأ بها المتصلون وحين تدفن اللامبالاة المصطنعة تحت أكوام الأسى الذي يحكون، ليرتجف الصوت، ويتبدد الغضب، ويبدأ لحن حارق النغمة من شهقات وزفرات من ليس بيدهم حيلة، من لا يريدون أكثر من أن يربوا الأولاد ويسافروا للعمرة ويشتروا “تلفوناً” يستطيعون أن يسجلوه بأسمائهم، أسمائهم التي أصبح اليوم يبدو لهم أن حتى هذه لم يعودوا يملكونها.
أختار اليوم لكم قصة لصاحبتها رائحة الهيل والزعفران، لنقل إنها قصة لولوة، أو خالتي لولوة كما كنت أنادي لها على التلفون، خالتي لولوة لها صوت عريق، صوت الجدات وهي تحكي حكايا قديمة وتمسد شعور الأحفاد، خالتي لولوة امرأة كبيرة، تعمل في الدولة منذ 1968 ولها شهادة ولادة بتاريخ 1952 ووالدها يملك شهادة عمل منذ أربعينيات القرن الماضي، كل أوراقها وأوراق أهلها تحمل كلمة كويتية رغم أنها بدون، ولأن خالتي لولوة عاشت فترة أفضل عندما كانت الحقوق والكرامات محفوظة نوعاً ما، فقد ضمنت لنفسها ظروفاً معيشية أسهل، حيث إنها ما زالت على رأس عملها، وحيث إنها، رغم مصاعب البدون الإجرائية المعتادة، لم تشعر في يوم أنها غريبة “أنا كويتية يا يما، كويتية بكل قطعة فيني”. “فما المشكلة يا خالتي؟ كيف أستطيع أن أساعد؟”، تنهدت خالتي لولوة عند سماع السؤال، ورفعت صوتها بثقة ابنة البلد لتسرد لي قصتها، ولينكسر صوتها تدريجياً مع كل كلمة تنطقها، ولترقّ النغمات وتخفت مخارج الحروف وتغيب مقاطع كاملة من جملها في نحيب خافت. استمعت مطولاً للمأساة ذاتها التي نسمعها الآن على مدار السنة أو يزيد: انتهت بطاقتها، ذهبت لتجديدها، وقت الاستلام فرض عليها التوقيع بصحة البطاقة قبل استلامها، رفضت، الآن هي بلا بطاقة، لأول مرة في حياتها الطويلة هي بلا بطاقة، بلا هوية، بدأت خالتي لولوة تذوق طعم ذل غريب عليها، هي التي خدمت البلد سنوات طوالا وكانت ابنته وإن لم تمتلك ورقة بنوّتها.
“أنا خايفة يا يمة، خايفة. قولي لهم أنا ما بي الجنسية، أنا كويتية، بدون أوراق، أنا أعشق هالأرض، قلبي وروحي ودمي كويتيين، بس ما أبي الجنسية، أنا كبيرة يمة، ما بقى لي وايد، شنو بسوي بالجنسية؟ ما راح أستفيد شي. أنا بس أبي البطاقة يا يمة، أبي أعيش بكرامتي، ما بي ألاقي روحي بالشارع، إذا مت من يضفني يا يمة؟ إذا مرضت دور الرعاية ما تستقبلني، ما بي أنهان وأنذل باقي عمري يا يمة، ساعديني أعيش بكرامتي”. الخالة لولوة تعالج في مكي جمعة من أورام في الغدة، وهي تعالج كذلك من أمراض أخرى في جهات أخرى، وهي مرعوبة أنها بعد أن خدمت البلد خمسين سنة، أن يكون جزاؤها أن تنهشها الأمراض ويأكلها الشارع وتتركها الدنيا بلا كرامة. طمأنتها، وأنا كاذبة، بأنها ستكون بخير وأن كرامتها محفوظة وأنها لن تهان “ورأسي يشم الهواء”، وأنا أعلم أنني برأسي ويديّ وقدميّ وصوتي ولساني وكل ما أملك لا أستطيع لخالتي لولوة أو غيرها شيئاً.
وفيما خالتي لولوة تجلس في بيتها تبكي بطاقتها الكفيلة بحفظ كرامتها، تكتب النائبة مطالبة بسحب الجنسية عن الزوجة المتجنسة بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها، لأن الوضع لم يتأزم بما فيه الكفاية بعد، ولأن الأسر لم تتمزق والكرامات لم تُهن والحقوق لم تُدس… كلها بعد.
كل ما تطلبه خالتي لولوة هو بطاقة، بطاقة تحفظ كرامتها وتقيها مذلة السؤال. انخفض سقف تطلعات خالتي لولوة الى بطاقة، واختفى الأمل من صدري وأنا أسمع شهقاتها، وأنا أنصت لرجاءاتها الممدودة وهي تناديني “ساعديني بنيتي”. وعدتها وأنا كاذبة، ما فرقت عن حكومتي في شيء، “لا تخافين خالتي، دام راسي يشم الهوا”.