خلف الأسلاك الشائكة
يقف معتقل غوانتانامو بجدرانه وأسلاكه وأدوات تعذيبه والقائمين عليه كشاهد عار على توحشنا الإنساني، واننا كبشر مهما تقدمنا انتهت بنا مخاوفنا وأطماعنا إلى درجات حالكة مخيفة من العنف تجاه بعضنا لبعض. في عالم اليوم أحادي القوى العظمى، تنفرد الولايات المتحدة بسمعة فريدة بذات فردية قوتها، فهي في حين رمز للديمقراطية والحرية والعلمانية الحقة وفي حين آخر هي رمز للتعسف والاستفراد بالقوى والاستبداد المذل.
وللكويت وضعية غاية في الحساسية تجاه الموقف الأميركي، فنحن بلا شك مدينون للسياسة الخارجية والعسكرية الأميركية التي قادت عملية تحرير الكويت من غزو 1990 المريع، ونحن كذلك مدينون لمبادئ حقوق الإنسان وللعدالة والحرية كأسس تضعنا في مصاف الدول الديمقراطية في العالم، وبين هذين الدينين تغيم مواقفنا أحياناً على الرغم من سطوع حقها وباطلها. لنا أبناء أسرى في غوانتانامو لم يعودوا إلى أرض الوطن بعد، ومع التراجع الواضح في سياسة «الإصلاح» الخارجية الأميركية، تبدو عودتهم بعيدة ، بل موغلة في بعدها. يقبع اليوم في غوانتانامو 180 من أصل 775 معتقلاً بعد أن تم إطلاق الأكثرية للعودة إلى دولهم أو إلى دول تستقبلهم كلاجئين سياسيين. يتم الآن الإعداد لإطلاق سراح 90 منهم وعرض 30 آخرين على المحاكم العسكرية في غوانتانامو للبت في شأنهم. يبقى 50 معتقلاً تؤكد الأخبار أنهم في صدد مواجهة حكم بالسجن مدى الحياة ودون محاكمة، كما أن هناك 10 غير معروفي المصير.
ويبدو مما يرد من أخبار أن ابني الكويت فوزي العودة وفايز الكندري مدرجان ضمن هؤلاء المحكومين بالسجن المسلوخ من أدني درجات الحقوق الإنسانية ألا وهي ضمان المحاكمة العادلة الملحقة بحكم منطوق مبرر ومنشور تحترم من خلاله الإدارة الأميركية مبادئ الحقوق الإنسانية المنصوص عليها في المعاهدات الدولية والدستور الأميركي، فخر الولايات المتحدة ونقطة الارتكاز لها في صياغة سياساتها الداخلية والخارجية، وتقدر من خلاله كذلك العلاقات المميزة لها بالكويت كحليف فاعل في المنطقة.
لقد كان من أهم تعهدات الرئيس أوباما إبان حملته الانتخابية إغلاق ملف غوانتانامو وتفكيك هذا المعتقل الذي تلتف أسلاكه خانقةً كل المبادئ الإنسانية السامية وكل أسس العدالة والحق والحرية التي هي أسس بناء الحضارة التنويرية الغربية، ونحن إذ ندرك الضغوط التي يتعرض لها الرئيس بين سياساته الخارجية «الجريئة» والداخلية «الجديدة»، إلا أننا ومن ذات منطلقات أرض «العالم الجديد» و»قدر انصهار الأمم» كما تحب الولايات المتحدة لسمعتها العالمية أن تكون، نُصرّ على المطالبة بتطبيق أبسط وأهم الحقوق الإنسانية: الحق في المحاكمة العادلة والعلنية لأبنائنا أو إطلاق سراحهم إن لم يكن هناك أسس لاتهامات واضحة تتعدى درجة «الشك المنطقي» حتى نتمكن نحن داخلياً من التصالح مع أنفسنا أولاً وفهم الموقف كاملاً ومن ثم الوصول إلى درجة من الاستقرار النفسي ما يمكننا من تفادي هذا المصير لأجيالنا القادمة وإنقاذ ما ومن يمكن إنقاذه من أجيالنا الحالية، ولنتصالح مع موقف حليفنا الأميركي ثانياً دون أن نقع في صراع بين دين التحرير ودين حقوق أبنائنا التي لم ولن نتنازل عنها أبداً.
لقد كان وصول الرئيس أوباما إلى سدة الحكم إيذاناً ببدء عهد جديد تخفت فيه ضوضاء الدكتاتورية «القطبية» التى جعلت الكثير من دول العالم تناظر أميركا بين «محيطيها» بالكثير من السخط والغضب المشحون، عهد تطوع بكلمات أوباما ليكون أكثر ليونة وأعظم التزاماً بحقوق الإنسان وبالأخص في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومعتقلي غوانتانامو، ونحن في انتظار الوفاء بعهود تأخرت والالتزام بمواثيق أهملت. في القادم من الأيام، سيكون هناك تحرك جاد للجمعية الكويتية لحقوق الإنسان بالتعاون مع الدكتور غانم النجار والسيد خالد العودة رئيس لجنة أهالي المعتقلين في غوانتانامو لإغلاق هذا الملف والوصول إلى فهم واضح متطابق تماماً ومعاهدات حقوق الإنسان لمصير ابني الكويت العودة والكندري إما بضمان محاكمة عادلة وشفافة تماماً لهم، وإما بعودتهما غير المشروطة إن لم يثبت عليهما ما يستوجب المحاكمة أساساً. والكويت حاضرة وجاهزة، ومنذ زمن، بمركز تأهيلي لمعتقلي غوانتانامو مؤسس على أيدي أفضل الأكاديميين لاستقبال الأبناء ومساعدتهم على العودة إلى الحياة الطبيعية والاندماج في المجتمع. نحن جاهزون وننتظر الالتزام بالعهود والمواثيق التي تحترم بشريتنا أولاً وحقوقنا الدولية وحقوق مواطنينا ثانياً، فغوانتانامو وصمة عار في جبين القرن الحادي والعشرين، ووصمة ألم وغضب على قلوب الكويتيين سيصعب نسيانها كلما طال أمدها، فلتسقط الأسلاك الشائكة فوراً قبل أن ينهزم إيماننا بالمبادئ التي تهذب أرواحنا بشراً وقبل أن يقلبنا الظلم وحوشاً تأكل بعضها… خلف الأسلاك الشائكة.