خط على الرمال
كيف يمكن لخط على الرمال أو لحائط من صخر وجير أن يحدد هويتك ويقيم أصالتك ويحكم على مستقبلك وأجيالك من بعدك؟
يمكن لذلك أن يحدث مع فعل تخطيط الأرض الذي اخترعه البشر ليُسبغوا على الجغرافيا أيديولوجيا، وليصبح المقيمون في هذه البقعة الجغرافية في هذه الحقبة التاريخية أرفع شأناً وأفضل حظاً ممن تعثر بهم الزمن خارج حدود الخط، لتفصل أمتاراً قليلة من الأرض في حيواتهم لمئات من السنوات القادمة.
لربما هو قدرنا كبشر أن نكوِّن هويات تتبع البقع الجغرافية وأن تتطلب هذه العملية حدوداً رمزية في البداية ثم حدود أكثر تنظيماً وأكثر توثيقاً لاحقاً، حدود تتبعها جنسيات وهويات، حدود تحيط بلهجات وأعراق، حدود تحدد الأقدار والحظوظ.
إلا أنه من المؤكد أنه لم يكن مقدراً لنا، ولا يجب أن يكون، أن نقدس هذه الحدود التي صنعناها وأن نستخدمها لغرس المزيد من الفروقات الطبقية والعرقية المبتلى جنسنا بها.
معظم الدول المدنية المتحضرة اليوم لا تقيّم مواطنيها على أساس امتدادهم الدموي ولا امتدادهم التاريخي في البقعة المعنية (إلا بأدنى حد)، الانتماء المدني أصبحت له قواعد مختلفة تماماً اعتماداً على فكرة الولاء الاجتماعي والفكري والمشاعري، تجانساً مع المنطقة وأهلها وطنياً وفكرياً واجتماعياً، بالإضافة إلى الاستحقاق الإنساني الأساسي: من يولد على أرض ينتمي إليها، من يحيا على أرض له فيها، من يخدم أرضاً وأهلها يستحق الانتماء إليها.
لم تعد فكرة أرسطو حول الأصالة الرومانية، التي طالما تغنى بها والتي هبطت من ذلك الزمن الغابر إلينا دون أن تتعدى تخلفها وظلمها، ناجعة اليوم، لم تعد هذه الفكرة حقيقية مطلقاً أمام التطور العلمي الذي دحض تماماً اعتقاديّ الأصالة والنقاء الدمائي. رغم ذلك، ويا للغرابة، تستمر هذه الأفكار بقوة كمصدر تفرقة وقمع وتعنيف لعدد كبير من البشر وصولاً للقرن الواحد والعشرين.
لا يزال خطاب داخل وخارج السور مستمر وبقوة في الكويت، مثله مثل كل خطابات الأصالة المتخلفة التي تدور في منطقة الخليج والعالم العربي عموماً وكذلك في الكثير من بقاع العالم الشرق آسيوي. قبل أيام مررت على إحدى بوابات سور الكويت (الذي لم يعد موجوداً الآن) وتأملت جمال البوابة وعمق معناها التاريخي ومدى الظلم الواقع عليها اليوم وقد أصبحت رمزاً للتفرقة بين الكويتيين ودافعاً مادياً لتأصيل الأفكار الطبقية والعرقية بينهم.
يعتقد عدد لا بأس به من الكويتيين بأن الأصالة هي داخل السور، وأن الكويتيون “الحق” هم من استقروا وعاشوا داخل هذه الدائرة الصغيرة، وأن كل من سكن خارجها دخيل، ليست له أصالة الأرض وبحرها. من يتأمل في هذه الفكرة يجد فيها من الغرابة والضرر ما لا يمكن تحمله، إلا أن الغباء العنصري يمنع فعلياً الرؤية ويضبب البصيرة حد الإضرار بالنفس، إنه المضحك المبكي.
من هذا الذي في عقله الواعي يريد أن يؤكد على أن دولته الممتدة الفسيحة (نسبياً) هي في عمقها مدينة صغيرة، وأن كل من يستحق الانتماء إليها هم هؤلاء القلائل الذين قطنوا داخل هذه المدينة؟ من هذا “البالغ العاقل” الذي يعتقد أن سوراً من طين، وإن بكل تبعاته الأيديولوجية ومعانيه التاريخية، يمكن أن يحدد أصالة الناس واستحقاقاتهم؟
أليس من الممكن أن لحظة بناء السور وضعت أناساً على طرفه الداخلي وآخرين على طرفه الخارجي بمحض الصدفة أو حتى بواعز العمل على السور ذاته؟ ألم يكن هناك أناس دافعوا عن الكويت بغير بناء السور، بالوقوف على حدودها الأبعد أو بحماية باديتها أو ما إلى ذلك؟
السؤال الأهم والأكثر كوميدية سوداوية هو: من ذاك الذي يريد أن ينفي عن الأصالة الكويتية باديتها؟ ألم نجد النفط الذي هو سبب كل الخير والرخاء على أرضها اليوم في تلك البادية؟ إذا كان أهل البادية ليسوا كويتيين أصيلين، ما يجعل ذلك من مصير النفط الذي كان يرزخ أسفل أقدامهم؟ كيف ندعي استحقاق هذا النفط ونتخلى عمن كانوا يسكنون فوقه، عمن هم أغلى وأثمن من هذا النفط بحد ذاته؟
صغيرٌ منظورنا العشائري، خصوصاً في منطقة الخليج، وقد أخذتنا تماماً الفكرة الأبوية الغابرة لأصالة الدم ونقاء الأصل والامتداد الزمني على البقعة الجغرافية، وكأن دمك غير المختلط بدماء الآخرين (إن كان ذلك ممكناً وهو ضرب من المحال) مصدر فخر لا مصدر أمراض (نتيجة التقارب الجيني)، وكأن بقاءك على بقعة جغرافية بعينها مصدر تفاخر لا مصدر انغلاق وعزلة، وكأن لفظك للآخر، الذي شاركك الأرض والمصير لسنوات طوال، مصدر وطنية لا مؤشر خيانة للعِشرة ونكران للجميل.
الزمن لن ينتظر أحداً، عشائريتنا الفكرية ستخنق دولنا المدنية وتقتل مستقبلها الواعد في مهده بعد أن تفقِدَها أعزّ ما تملك، الثروة البشرية. نتفهم الخصوصية وفكرة روح الهوية وتناغم النسيج (كلها أضحت تعابير منفرة لتوالي سوء استخدامها) إلا أن تلك كلها يمكن المحافظة عليها دون عنصرية، دون عنف وتعالٍ، دون طبقية غبية لا معنى فلسفياً لها ولا قيمة علمية حقيقية تسكنها.
دعونا لا نتعالى بسبب ضربات حظ مُطلقة وضعتنا على جانبٍ ما من خط الرمال، بدفعة يد قدرية، يمكن أن تجد نفسك على الجانب الآخر من الخط. دعونا لا ننسى، كلنا في تهديد مشيئة الأقدار بشر.