خط التماس
تبعت إحدى الموظفات في أحد المتاجر دخولاً إلى غرفة القياس لأجرب القطعة المرجوة، أدخلتني السيدة المغربية اللطيفة بكل ترحيب إلى غرفة خالية، والتي ما إن أغلقت بابها استعداداً للمهمة حتى تعالت الأصوات خارجها صياحاً أقلقني. أسرعت ألملم حاجياتي خروجاً من الغرفة لشعوري وكأن “الخناقة” تخصني بصورة من الصور، وذلك لاندلاعها فور وصولي. ما إن فتحت الباب حتى سمعت سيدة ترفع نبرة صوتها بغضب تجاه الموظفة بما معناه أنها كانت هنا أولاً وأن العاملة تعدتها بإدخالي للغرفة أولاً، “عشان أنا بدوية يعني؟”، قالتها السيدة المنقبة فيما أنا مقبلة خروجاً من الغرفة، وقفتُ أنا خلفها معتذرة “لم نكن نعلم بوجودك سيدتي، أعتذر أنا إن تسببت بمشكلة”، التفتت إلى السيدة بغضب بدا مشوباً لوهلة بإحراج ليرتفع صوتها مجدداً “شلون يعني ما تعرف، أنا جالسة هنا من فترة وهي أدخلتك مباشرة”. هنا تدخلت الموظفة المغربية وقد ارتسم غضب ناعم على وجهها “ليس من شأني أن أسأل الجالسات عن سبب جلوسهن يا مدام، لم أكن أعرف أنك تنتظرين الغرفة”. بدأ صوت الغاضبة يرتفع مجدداً مما دفعني لأخذ الموظفة من يدها ابتعاداً عن المكان. طلبت منها أن تحاسبني على القطعة وأنا أعتذر عن المشكلة، في حين هي تغتصب ابتسامة مطلوبة منها وتطمئنني أن الأمور بخير. ناولتها كرتي الشخصي وطلبت منها أن تخابرني في حال احتاجت شيئاً أو تسببت لها السيدة الغاضبة بأي مشكلة، أكدت لي أن الأمور طيبة وأن لا داعي للقلق. واضح جداً أن الأمور ليست بخير وأن هناك كل داع للقلق.
خطر لي أن أعود للسيدة الغاضبة، أن أوبخها على كلمتها، لماذا اعتقدت أن بداوتها سبب في إهمالها؟ ولمَ لم يخطر في بالها أنني قد أكون أقلية مقموعة كذلك؟ فجأة بزغت المعضلة واضحة في مخيلتي، توهجت الفكرة القبيحة لتمنعني من العودة للسيدة الغاضبة، ولتشعرني بالتعاطف معها وبالخوف من مخاوفها ذاتها. إنه التمييز المزروع بيننا، الذي نعتقد أننا نعانيه جميعاً، والذي بسببه نؤمن أن الآخر له حظوظ أكبر من حظوظنا وله نصيب حتى في حقوقنا. كلنا، تبين لي في تلك اللحظة، نعاني الفوبيا ذاتها، كلنا مقتنعون ببساطة أننا مقموعون. ما الذي دفع بهذه السيدة لأن تعتقد بداوتها سبباً في تقديمي عليها؟ لا بد وأن لها تجربة، لابد وأن مشاعرها قد جرحت ذات يوم، أن نفسها عانت تمييزاً، أن قلبها تعرض لكسر، وقد أتى أصلها ليؤخر لها فرصة أو يهضم لها حقاً، ومن منا لم يتعرض لتجربة كهذه، لجرح كهذا أو معاناة أو كسر؟ إنها مؤامرة العصر، أن نستشعر جميعنا، كل فرد فينا، التمييز ضدنا، أن نعيش باستمرار في ألم الشعور بالتمييز ووجل الشعور بضياع الحقوق، لماذا نعاني كلنا المشاعر ذاتها؟ من بثها فينا ورسخها بيننا وثبتها اعتقاداً راسخاً في نفوسنا؟ ما أثر الإيمان بهذه الفكرة علينا كمجتمع وعلى علاقاتنا فيه كأفراد؟ أي أمان ندّعي وكل منا يستشعر نفسه أقلية، حقوقه لا ينالها إلا بالصراخ، مميزاته لا يتحصلها إلا بالواسطة؟
كم كان وضعا غريبا حين حَصَرت أصولنا المختلفة هذه السيدة المغربية بيننا، وهي التي لربما لا تعرف شيئاً لا عن بدو ولا حضر، لا عن شيعة ولا سنّة، غاية هدفها أن تؤدي واجبها وتحقق صفقة للمحل لربما ترفع من مدخولها الزهيد. لقد وقفت هذه العاملة، دون ذنب أو جريرة، على “خط التماس” بين أصولنا ومفاهيمنا تجاه وحول بعضنا البعض، أصبحت هي في هذه اللحظة ضحية عقود، ولربما قرون، من العنصريات الغبية، وأعتذر عن اللفظة التي لا يوجد ما هو أنسب منها، التي تجعلنا نقدم هذا على ذاك أو نعلي ذاك على هذا بسبب من أصل أو طائفة أو دين أو انتماء، حتى وصلنا إلى هنا، إلى خناقة على باب غرفة قياس اعتقدت خلالها السيدة، لربما غير ملومة إلا على ارتفاع صوتها وقلة حصافة تصرفها، أنها مميز ضدها بسبب ملبسها الذي دلل على أصولها. أتنقل أنا بين سخافة وضحالة الموقف وعمقه وخطورته، فلا أستشعر سوى خوف متدفق من عمق هذا الخراب المدسوس في نفوسنا.