خدّرن الملائكة
سيداتي النساء هذا مقال، لكنه مقال متحيز جنسانيا، وهو تحيز مستحق في رأيي، تحيز عن سبق إصرار وترصد، تحيز يدعوكن وأنا معكن لإطلاق صرخة كامنة منذ آلاف السنوات، صرخة في وجه عالم أبوي ذكوري بامتياز، لا يعرف سوى لغة العنف كمقياس قوة، ولا يفقه سوى المنطق الذكوري البحت في قياس الأشياء والأحوال والأفعال. كل من تمتلك منا صوتا يجب أن تطلقه، تذكيرا وتنبيها وتحذيرا لبنات جنسها بأن الدنيا لن تعطينا حقنا إلا إذا طالبنا به ومددنا أيادينا له، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالعقل، وبالمنطق والحكمة النسائيين، ومن حسن حظنا أننا نساء، لنا من العقل والمنطق والحكمة ما لا يمتلكه الكثير من الرجال المفتونين بأجسادهم وبمراكزهم الاجتماعية وباستعلاءاتهم الدينية التي تضعهم على قمة الهرم البشري، هذا الهرم المضعضع بمظالمه وهشاشة عدله وغياب إنسانيته، الذي لن يواسيه أرضا ليصنع لنا دنيا عادلة إنسانية سوانا نحن، النساء.
إنهن نحن، كما تقول إيف آنسلر الناشطة الإنسانية والكاتبة المسرحية، نحن النساء اللواتي يأتين للإنقاذ بعد أن تحل الكوارث، النساء اللواتي يطببن إبان الحروب وبعدها، اللواتي يفتحن المراكز الإغاثية، ويرتبن الشؤون الطبية، ويعددن الصفوف الدراسية للعمل تحت قصف المدافع وتراشق الرصاص. إنهن النساء اللواتي يظهرن بعد أن يحل الدمار ليعدن البناء من جديد، ليطببن الجراح الجسدية والاجتماعية، وليعدن الروح لبشر وأبنية أخلتها الحروب وأفرغها العنف والاقتتال.
يمكن تخيل صعوبة هذه المهمات وفداحة آثارها على حيوات النساء العاملات ونفسياتهن في المجال، إلا أن ما لا يمكن تخيله هو استمرار القيام بهذه المهمات طوال الحياة بوجود حروب أو بدونها، بتداعي العنف أو في لحظات هدوئه.
فرجيينا وولف: لا بد من قتل الملاك الذي في داخلنا، أن نتوقف عن التضحية وأن نتسامى عن التسامي الماسخ الذي يأخذ منا حيواتنا وذواتنا ومعنى وجودنا.
هن النساء يعملن على التطبيب والمواساة طوال حياتهن، هن الراعيات للأنفس والأرواح من حولهن، هن اللواتي يختفين أسفل طبقات الملابس وأكوام الصحون والفناجين، يختفين في ضباب غبار التنظيف وبين ساعات الاعتناء بالأبناء، بدراستهم وتنقلهم ومواعيد أطبتهم ومواقيت نومهم، هن النساء يتجاهلهن الدنيا وهن من يصنعنها، يطويهن الزمن وهـــن اللــواتي ينظمنه، أعمار وأرواح وقدرات ومواهب وإبداعات، وكل الذي كان ممكن أن يكون لو توافرت الفرص، كل ذلك ينطوي أسفل سجادة المسؤوليات، تكنسه المفاهيم الذكورية للمجتمع وتذروه رياح الأحكام المسبقة بأن دور المرأة، ذلك الدور الذي اختارها ولم تختره، هو التضحية المستمرة، ومصيرها هو الغياب المستمر. لكل مجتمع «درره المكنونة»، حبيسة البيوت، معصوبة الإرادة، منتهكة القدرات والإبداعات، درر يخبئها المجتمع الذكوري لتلمع خلف الجدران لساعات وتنطفئ خارجها العمر كله.
هي نحن، كل واحدة منا وهي، كما تقول فرجينيا وولف، تأكل القطعة الأقل جودة من الدجاجة تاركة البقية الشهية لعائلتها التي تجلس في أسوأ مكان في المجلس لتسد منفذ الريح عن أبنائها، هي الملاك الذي يبقى يعطي ويضحي، ليس بوقته وجهده الجسدي والنفسي فقط، بل بعمره أيضا وبمعنى وجوده، وبطموحه، وبإمكانية أن يكون، باحتمالية أن يحقق، ليترك كل ذلك جانبا ويدور في طاحونة مغلقة من عمل ورعاية لا هدف نهائيا منهما، لا ترقية تنتج عنهما، ولا مبالغ مالية تُدفع فيهما، لا مهنة تتأسس، ولا اسم يخلد ولا نجاح عام يتحقق… ملابس تتسخ ويعاد غسلها، أطباق تتلطخ ويعاد تلميعها، طلبات تتكرر وتعاد تلبيتها، وغبار يتراكم ويعاد نفضه، طعام ينفد ويعاد طبخه، وصغار يكبرون، وحدهم هؤلاء الذين يكبرون لا تعاد أيام طفولتهم، يغادرون للحياة وهذا حق لهم، ويتركونها لحياة لم تكن في يوم حقا خالصا لها.
فرجينيا وولف تقول إنه لكي نحقق- نحن النساء- النجاح ونبني الأسماء ونصنع المكانة والمستقبل النسائيين، لا بد من أن نقتل هذا الملاك الذي في داخلنا، أن نتوقف عن التضحية وأن نتسامى عن التسامي الماسخ الذي يأخذ منا حيواتنا وذواتنا ومعنى وجودنا. لربما تكمن معضلة المرأة في أنها لن تستطيع في يوم قتل هذا الملاك تماما، هي تصارعه، أحيانا تناوره، تعقد معه المعاهدات، وتطلب منه الهدنات، لكنها لن تنجح أبدا في قتله يوما ما، لذا تبقى تطبب وتعالج، تغسل وتطبخ، تنظف وتبخر، تحب وتغفر وتسامح وتنتظر، دوما تنتظر أن يأتي يوم آخر مختلف، يوم تسكت فيه التقاليد وتعدل فيه المعتقدات، وتعطي لكل ذات حق حقها، ولكل مستحقة فرصة فرصتها. أعلمكن حبيباتي أن الدنيا، ببرودها وصلافتها وعدميتها ولا مبالاتها، لن تعطينا شيئا، لن تعدل فينا ولن تستحي من مظالمنا. خدرن الملائكة في نفوسكن يوما أو بعض يوم، وامددن الأيادي لحقوقكن وفرصكن، لا تخشين في الحصول عليها لومة لائم، أو تعزير مجتمع أو تهديد فقيه. لا تستحين مما تستحققن، لا تستسلمن لعذاب الضمير لتفكيركن في أنفسكن فقط، لا تقسون على أرواحكن وأحلامكن. الدرر موجودة لتلمع وتنير لا لتدفن وتكن. أنتن صاحبات الحياة، حان وقت عيشكن الكامل لها.