حيواتنا الخاصة العلنية
تخرج حياة المشاهير للعلن في هذا الزمن بإرادتهم، لا على الرغم منها كما كان يحدث في أزمنة ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ليتحابوا ويتنزهوا ويتعاركوا ويتصالحوا أمام المجتمع بأكمله، ولتصبح حيواتهم بما فيها من تفاصيل خاصة ومحرجة ولطيفة وثقيلة وخطيرة كلها مشاعاً للناس ومادة لصنع المال. لكن هناك لحظات جادة في هذه الحياة المعروضة انتقائياً، تنفذ أحياناً للعلن رغم جديتها ووجعها، لتجد طريقها عبر وسائل التواصل وبأيادي أصحابها بحد ذاتهم. أتصور أن نقلة نوعية في النفسية الإنسانية حدثت مع بروز وسائل التواصل كأدوات تواصل وتلاق إنسانية، إذ أصبح تنفيس الألم من خلالها ليس فقط مقبولاً بل استشفائي أيضاً، ليتحول إلى نوع من التطبيب النفسي والمعالجة الاجتماعية الذاتية.
تقول مي سليمان في مقال لها على موقع رصيف 22 بعنوان «عن اختفاء «آداب» نهايات العلاقات… قصة لمى الأصيل وزوجها نموذجاً»، إن « البعض منّا مازال ينتمي لحياة ما قبل منصّات التواصل الاجتماعية، ويرى في استعراض الحياة اليومية وحديث المرء علناً عن أطفاله وأمواله وأشغاله ومشاكله الخاصة ضرباً من عدم اللباقة». في الحقيقة، يبدو اليوم أن حتى هؤلاء الذين ينتمون لحياة ما قبل منصات التواصل، وأنا منهم، يستعرضون كذلك حيواتهم ويبوحون بكثير من أسرارها، بصورة أو بأخرى، على المنصات التي ينتقدون. الأغلبية العظمى من البشر تكتب آراءها على تويتر، والرأي بحد ذاته إفصاح عن مكنون وكشف لمستور، تضع صوراً وفيديوهات لمشاهد حياتها أو على أقل القليل لمشاهد تعجبها حولها على انستغرام أو سناب شات أو التيك توك، تشارك بجملة هنا، بصورة هناك، برسالة منقولة، بردّ بسيط، على أي عدد من وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن بكل أو ببعض ذلك إنما نعري بعضاً من أرواحنا ونفصح عن لحظات خاصة من فكرنا وحيواتنا كانت قبل زمن وسائل التواصل سراً مخفياً.
لكن خصوصية الحياة المشتركة بين فردين تحديداً لا تزال ذات حرمة وحساسية في مجتمعاتنا المحافظة على وجه الخصوص، حيث يُنظر لمن يستعرض حياته الخاصة، سلباً أو إيجاباً، على أنه مستهتر، ويفتقر للياقة الاجتماعية والغيرة الأخلاقية، ورغم أنه افتقار ذكوري التوصيف، ذلك أن الغيرة هي من صفات «الرجال»، فإن أكثر اللوم وأشده يقع عادة على النساء اللواتي لا يجدن في كثير من الأحيان سوى وسائل التواصل علنية المنحى للتنفيس أو لاستعراض آلامهن أو للحصول على المساعدة. في قصة لمى الأصيل وزوجها، وهي «مؤثرة» اجتماعية من أصول سورية تعيش في أمريكا، وعلى الرغم من انقسام الرأي العام حول حق وباطل قصتهما، إلا أن اللوم الأكبر وقع على لمى بسبب فيديو هستيري خرجت فيه نائحة خسارتها لزوجها الذي لم ينتظر طويلاً ليرتبط بأخرى، حيث وعدت هي بعرض المزيد من الخبايا، صارخة في الجموع أن تبقى في انتظار الفضائح الآتية. شخصياً، لست من الجيل المعتاد على هذه العلنية في حيوات الناس الخاصة، كما أنني لست من جيل يفهم سيكولوجية تشغيل الهاتف أو فتح وسيلة تواصل لحظة الألم المفعم، فكثيراً ما أستغرب أن يصور البعض لحظات الأسى والبكاء والمرض، فأجدني أتساءل حول التناقض بين حقيقية المشاعر المستعرضة واصطناعية الأداة الناقلة. كيف تكون على هذه الدرجة من الألم والعذاب وتستطيع العثور على هاتفك ثم تشغيله والدخول على أحد التطبيقات، ثم البدء باستعراض ألمك؟
إلا أن التغيير الذي طال التفاصيل التكنيكية العملية في حياتنا قد طال كذلك بلا شك التفاصيل النفسية التي تحكمنا وتتحكم في ردود فعلنا. لا بد أن البحث عن التلفون بعد وقوع كارثة ما هو اليوم رد فعل طبيعي، بل ربما رد الفعل الأكثر طبيعية وتوقعاً، كما أن التنفيس العلني ومحاولة استمالة الرأي العام، صغر أم كبر محيطه، يشكلان وسيلة من وسائل معالجة الموقف وإثبات الحق، تماماً كما كان الناس في السابق يحاولون استمالة آراء أهلهم أو أصدقائهم بالشكوى والشرح والسرد المطول المباشر. المذهل أنه مع كل هذه التغييرات البرمجية في سيكولوجيتنا، شيء واحد بقي مقاوماً للتغيير، ألا وهو أن ما نقبله من الرجل يبقى عصياً على القبول من المرأة حتى وإن تطابق الفعلان والموقفان.
تعرضت لمى لنقد قاس لخروجها في فيديو هستيري، فيما أتى خروج زوجها في فيديو «هادئاً» يؤكد فيه فخراً على شرقيته وعلى إهمال لمى لبيتها وأبنائها وانشغالها بفيديوهاتها، والتي ويا للمفارقة! كان له نصيب كبير من الظهور فيها، وعلى بعض الخلل في سلوكها وإن لم يصل ليطال شرفها، ليقدم تبريراً لتصرفه، ولينال الكثير من التأييد. كل ما كان يحتاج هذا الزوج هو أن يذكر البيت والأولاد والإهمال والتحرر، أربعة كلمات ستأتي له بكل تأكيد بالتبرير والمساندة والمغفرة.
تقول سليمان في مقالها، إن «في عوالم موازية، كان للانفصال أن يكون أقلّ ألماً وأكثر رقّة، درجة من التدرّجات اللونية التي تمرّ بها العلاقات البشرية، لا ينبغي لها أن تكون أكثرها سواداً وظُلماً». غير أن ذلك لم يعد متاحاً في عالم يشترك فيه الكل في تقييم العلاقة، ينقسم فيه الكل إلى فرق مؤيدة ومعارضة تحكم على الشخصيتين من خلال صورها وفيديوهاتها المنتقاة له، ليضرم هذا العالم النار في قش العلاقة ويصب الزيت على لهيب الاختلاف. قصة لمى وزوجها تتكرر بشكل يومي على وسائل التواصل، والضحايا من الحيوات والعلاقات تتساقط كل يوم أمام اصطفافات الناس وأحكامهم وخنادقهم التي يتمترسون خلفها مطلقين نيران أحكامهم من فتحاتها. لكن يبقى أن لربما ليس هذا الوضع بشاذ أو «خاطئ» مطلقاً، إنما هو الوضع الجديد للحياة الجديدة والعلاقات الجديدة في القرن الحادي والعشرين، حياة كلها علنية وعلاقات كلها مكشوفة لا يعمل على تقويمها وإسناد أودها أو تحطيمها وتخريبها الطرفان المعنيان، لكن الجمهور المتابع لهما بأكمله. معادلة صعبة جداً، ولكن يبدو أنها أضحت واقعاً لا مفر منه.