تظاهرة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة في أوكرانيا
حياة نص كم
الحرية هي القيمة الأغلى في حياة كل إنسان. كلنا يريد أن يتحرر من شيء ما، أن يعبر عن شيء ما، أن يعيش بطريقة ما. الفقير يريد أن يتحرر من فقره، والحزين من حزنه، والمكمم فاهه من كمامته، والأرستقراطي من قيود طبقته، والغني من خوفه وقلقه وحتى جشعه للمزيد من المال؛ كل في قلبه هدف تحرري يسعى إليه.
الحرية هي ـ في رأيي ـ الهدف الأعمق الراقد في قلب كل أهدافنا ورغباتنا الأخرى. وعلى حين أن ماركسيتي الدفينة “النص كم” تصر عليّ بأن هدف كل البشر هو تحقيق الربح المادي وأن “الدولار” هو الذي يحدد كل شيء في حياتنا بما فيها طبائعنا وعاداتنا وتوجهاتنا وحتى طبيعة أدياننا، إلا أن الليبرالية الاجتماعية التي تغلف روحي تقول لي بأن الحرية أغلى من المال وأن القدرة على الفعل والبوح تفوق الدولار قوة بل وتأثيرا على الأسواق العالمية.
الحرية هي ما يتعارك عليه الأبناء مع والديهم، هي ما يضحي من أجله الثوار دافعين فيه الغالي والنفيس من حيواتهم، في غيابها تنهدم العلاقات وتميل التوازنات وتترنح السعادات ما بين تحمل وتعاسة. القيود، ولربما من بعدها الفقر، هما أكثر ما يمكن أن يصنع الثورات ويدفع بالناس للعنف، حتى هؤلاء الأكثر مسالمة وخمولا.
حين تغيب الحرية عن أي علاقة، تفقد هذه العلاقة وبشكل مباشر توازنها، حيث يصبح فيها طرف أقوى وطرف أضعف، طرف صوته مرتفع وطرف خفيض الصوت، لتتدحرج بعد ذلك المشاكل مباشرة على سطح العلاقة في صورة صراع مستمر للقوى وباستخدام كل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، في محاولة لإعادة التوازن (الذي تنشده الطبيعة مهما قاومناها) للعلاقة بكل أطرافها.
حين تدور الحوارات بيننا كنساء حول علاقاتنا وشركائنا، دائما ما يختفي في طيات الحديث مضمون صراع قوى شديد، صراع مستمر خفي كأنه رمال متحركة في صحراء علاقات قاحلة، ونعم هي قاحلة طالما اختفى خضار الحرية الحقيقية الكاملة من على سطحها تاركا إياه أصفر ترابي جاف. في حديثنا عن هذه العلاقات، دوما ما نلوح كنساء، مهما بلغت المحبة للشركاء، بالأساليب الخفية الملتوية التي تضطرنا الظروف والقوى المجتمعية والقانونية لها والتي بها وحدها نحقق العدالة ونعيد الاتزان للمعادلة المنكفئ كفها دوما باتجاه الرجل.
ولقد كتبت العديد من النسويات ومنذ ما قبل عصور النهضة عن هذه المشكلة العميقة والتي تفرغ المرأة إجبارا من تصرفها الأخلاقي. ماري وولستونكرافت كتبت على سبيل المثال في القرن الثامن عشر مشيرة إلى أن تفرد الرجال بالسلطة الديكتاتورية يدفع بالنساء دفعا للخبث والتآمر. في حين حذرت أخريات مثل سارة ستيكني آليس من تداعيات الغياب الأخلاقي القسري والدفع بالنساء تجاه المناورة على المنظومة الأسرية بأكملها كون المرأة هي المشكّل الأول لأخلاقيات الأسرة من حيث تفردها، في ذلك الزمن، بتربية أبنائها. لم تتغير الظروف كثيرا اليوم، مازالت المرأة المعني الأول بتربية الأبناء وبالرعاية البيتية، ومازالت مدفوعة دفعا، من خلال القواعد المجتمعية والقوانين الأسرية، للمناورة من أجل نيل حقوقها.
أعلم تماما أن هذا الموضوع هو غاية في الحساسية لارتباطه الملحّ بالتشريع الديني، وهو المسيطر الأول على كل قوانين الأحوال الشخصية والأسرية في معظم أطراف العالم العربي، تونس آخذة في أن تكون استثناء قويا رائعا، إلا أن المواجهة لا بد وأنها قادمة.
لن تعتدل كفة المجتمع ولن يخلو من المشاكل إلا إذا استتب العدل في أصغر مكوناته، أي في قلب الأسرة المركزية. وإلى حين يصبح للمرأة ذات القوة المجتمعية والقانونية، وإلى حين أن تصبح هي بذات السلطة في أسرتها وعلى حياتها وحريتها دخولا أو خروجا من علاقتها مع الرجل، وإلى حين أن تصبح لها ذات الحقوق المدنية كاملة متكاملة دون فرق بينها وبين شريكها، لن يستتب للعلاقات الإنسانية أمنا ولا هدوء ولا اتزانا.
ستبقى النساء تكذب على الرجال لتحقيق رغباتها الممنوعة في الأسرة بحكم قوامة الرجل الاجتماعية، وستبقى النساء تناور مضطرة للشائك من الخدع وأساليب المقاومة للتحصّل على شيء من حريتها الضائعة في حال أرادت الفكاك من علاقة زوجية يرفض الرجل تحريرها منها بحكم قوامته القانونية في كافة مواضيع الأحوال الشخصية.
وإلى أن تشعر المرأة بأنها حرة تماما في الدخول والخروج من العلاقة الزوجية، وإلى أن تتأكد من استكمال حقوقها الاجتماعية الأسرية الباقية، إلى أن تُرفع عنها الوصاية الذكورية وتصبح هي وليّ حقيقي وكامل على نفسها وأبنائها، إلى أن تكون لها ذات حقوق الرعاية الأسرية المقدمة من الدولة، إلى أن ينظر لها على أنها إنسان متكامل له إرادة واجبة التنفيذ في العلاقة الزوجية فلا يمكن لأحد أن يجبرها على الاستمرار أو حتى على الانفصال، إلى أن يتم كل ذلك وبمساواة تامة لا تقل إنشا أو تزيد، ستبقى المرأة مضطرة للكذب عليك أيها الرجل ولمناورتك، وستبقى محتاجة للدوران في دوائر لا تنتهي لتحقيق أبسط الرغبات ولتفعيل أبسط الحقوق دون أن تتمكن من السعي في خط مستقيم كما يجب أن يكون لتصل لمبتغاها، ستبقى تخدعك وتناورك وتكذب عليك كذبا صريحا لا لوم عليه ولا عتب بسببه في محاولة لتعديل كفة الميزان الصارخ الانكفاء.
تريد علاقة واضحة وصريحة، تريد قيمة أخلاقية تحكم العلاقة، عليك بالمشاركة في إحقاق الحق، دون مَنّ أو شعور باستحقاق شكر، عليك أن تساعد في إعادة المعادلة لاتزانها الطبيعي، عليك أن تحترم الحرية الكاملة التامة الخالصة المساوية تماما والتي لا تنقص أونصة عن حريتك للمرأة الإنسان. دون ذلك، ستبقى مضحوكا عليك، وستبقى المرأة مناورة حزينة ومخادعة تحفر الحياة بمخالب خداع مفروض مهين. الحرية، وفقط الحرية الكاملة، والمساواة التامة في الحقوق، تلك هي التي ستعيد للعلاقة ولكل علاقة أخلاقيتها التامة.