حقوق ملوية الذراع
تتكرر دائماً مقولة أن المرأة مكتملة الحقوق تحت مظلة الدين الإسلامي، والمقصود هنا بلا شك، تحت مظلة الرأي الديني السائد والتفسيرات والتأويلات التي تصوغ الفلسفة الدينية وتتحكم في طريقة تطبيقها. لكن السؤال الحقيقي والمؤثر، ولربما الموجع لمؤيدي الدولة الدينية هو: هل فعلاً يمكن أن تتساوى المرأة بالرجل في الدولة الدينية (مع تحفظي على كلمة مساواة وعلى تحديد الرجل كمقياس لهذه المساواة) وأن تكتمل حقوقها وتُضمن كل فرصها فيها؟
يطرح هذا السؤال نفسه للمهتمين بالوضعية النسوية داخل الدول المحافظة الدينية أياً كانت عقيدتها، فالدول ذات السياسات الدينية هي منظومات تحاول خلق وجه مدني ومظهر حقوقي متحضر وأذرعها القانونية والإدارية ملوية خلف ظهرها. بداية، هناك إشكالية في نعت الدول الدينية بوصف دول أساساً، فالدولة هي تشكيل حديث، ظهر في أواخر القرن التاسع عشر بشكل أكثر وضوحاً لتتبين معالمه بتحديد أكبر بعد الحرب العالمية الأولى. والدولة بمفهومها المدني هي منظومة معقدة ذات مشاكل حقوقية وإنسانية كثيرة، لا شك في ذلك، إلا أن الاعتراف بها كمنظومة بشرية، يجعلها أكثر طواعية وأكثر قابلية للإصلاح والتغيير. من هنا، فإن وصف دولة يبدو ملائماً للتكوينات الحديثة التي تلت الإمبراطوريات القديمة، وهي تكوينات، في عارض حلها للعنصريات والتمييزات القديمة، حاولت الابتعاد عن التصنيفات العرقية والدينية قدر الإمكان، مُؤَسِّسَة لمفاهيم مدينة حديثة للمواطنة والانتماء. لم تنجح هذه التكوينات تماماً، فعليها ما عليها من قصورات كثيرة وخطيرة، إلا أنها بلا شك خطوة مهمة للأمام. هذا التوصيف ببساطة لا ينطبق على التكوين السياسي الديني، الذي يرى نفسه تمثيلاً لسلطة الإله على الأرض، والذي يحتكم لأحكام وتشريعات صارمة غير قابلة للنقاش أو التغيير.
عودة للسؤال، هل ستكون «الدولة» الدينية، وسنسميها هنا دولة مجازاً، عادلة تجاه الأقليات المختلفة عن دينها وتجاه المرأة تحديداً بما أنها موضوع هذا المقال؟ ببساطة، لا أتصور أن المجتمعات الدينية بعمومها والقائمة على قوامة وتقدم الذكر وعلى استشكالية مظهر وجسد الأنثى، قادرة على أن تؤسس لفكرة مساواتية بينهما كمواطِنَيْن. وإذا ما أخذنا المجتمع الإسلامي مثالاً، فكيف ستتساوى الحقوق إذا كان للرجل القوامة على المرأة والولاية على الأولاد؟ كيف ستتعادل القوى الأسرية وعلى المرأة واجب الطاعة وليس لها أي قوة حقيقية في الخروج من منظومة الزواج بمحض إرادتها، حيث إنها في أفضل الأوضاع يمكنها أن «تشتري» حريتها بالخلع؟ كيف ستتساوى الفرص وجسد المرأة كله عورة واستشكالية بيولوجية دينياً، فهو جسد مأمور بالتغطي الدائم، لا يمكن تحرير حركته ولا يمكن تفادي فكرة الشهوانية التي تحوم حوله ولا يمكن إعفاؤه من تبعات الواجب البيولوجي المفروض عليه؟ علينا أن نتذكر أن أحد أهم عوامل تحرر المرأة الغربية وانطلاقها في مجال الحياة والعمل هو تحررها من الملبس المعيق السابق، حيث كانت الفساتين الطويلة هائلة الحجم أحد أهم معوقات المرأة، بل وسبباً رئيسياً في معاناتها وأمراضها الجسدية. كيف يمكن للمرأة المسلمة أن تنطلق في مجالات الحياة المدنية المختلفة التي قد تطلب منها التخلص من فضفاضية الملبس وتغيير بعض ملامحه، مثل أن تجعل غطاء الرأس أصغر حجماً أو أن تكشف شيئاً ما عن ساعديها؟ لست هنا بالطبع أدعو لتغيير مفروض، فالملبس موضوع خاص وشخصي جداً، وهو يفترض أنه متروك تماماً لتقدير واختيار صاحبته، إلا أن السؤال الذي أطرحه هو: كيف يمكن للمرأة أن تتقدم في المجتمع الديني، وحتى أبسط حقوقها من حيث حرية اختيار الملبس والمظهر، اللذين قد يؤثران في اختياراتها المدنية والعملية، غير مكفولين لها؟
في الدولة الإسلامية التي تلتزم بالقراءات التشريعية الحالية، مثل أن للمرأة نصف إرث الرجل، وأن شهادتها تعادل نصف شهادة الرجل، وأنها ملزمة بواجب الطاعة، وأنها محكومة بواجبها الجسدي الزوجي الذي لا يمكنها أن ترفضه؛ وبالتالي يحق لزوجها إجبارها عليه، وأنها وأبناءها تحت وصاية زوجها، وأنها محكومة بمظهر خارجي محدد، وأن جسدها يعتبر ملكية لزوجها ويعتبر وثيقة سمعة وشرف لعائلتها، وأنه لا ولاية عامة لها مما يعقد توليها المناصب القيادية، وأنه لا قيادة دينية لها؛ فلا يمكن أن تكون إمامة مسجد أو خطيبة جمعة أو مفسرة قرآن أو مجتهدة أو مقلِّدة تُتَّبَع، وأنها مهددة بمشاركة حياتها الأسرية بما يمكن أن يصل لثلاث نساء أخريات، هذا بخلاف الزواجات الجانبية الممكنة الأخرى، وملك اليمين الذي يمكن أن تعيده بصورة أو بأخرى سياسات الدولة الدينية، وأنها لا يجب أن تتنقل بلا محرم، ولا يجب أن تختلي بزملائها، ولا يفترض أن يعلو صوتها، ولا يمكن أن تشارك في الفنون التي قد تُخرجها عن إطار الحشمة والمسلك الدينيين المحددين، ولا يمكن أن تختار شريك حياتها من خارج ملتها، ولا يمكن أن تتزوج لو كانت بكراً ولو بلغت من العمر عتياً دون إذن ولي أمرها، إلى غيرها من اللاءات التي لا تنتهي، في مثل هذه الدولة ذات مثل هذه التشريعات… هل حقاً المرأة مكتملة الحقوق متساوية الفرص متحررة الاختيارات في الحياة؟
ولأنه لا حقوق بلا واجبات، ولأن الحرمان من الحقوق يُبنى في الواقع على «الحرمان من الواجبات» فهناك نقاش آخر حول الظاهر الرحيم لرفع المسؤولية المادية عن المرأة الملزمة طوال حياتها من الذكور في أسرتها، الذي هو ظاهر رحيم باطنه عذاب وتحجيم وسجن أبدي للمرأة بداخل أسوار الواجب المادي للرجل. لذلك إن أتينا للحقوق أو أتينا للواجبات في الدولة الدينية، فهي كلها مصممة لتحجيم وعزل المرأة ووضعها «في مكانها» الذي منه تخدم الرجل وتسهل مهامه. هذه ليست دولة مدنية، وتلك ليست مساواة، وهذا ليس تطبيقاً للجملة الخاوية التي تتكرر حول «المرأة المسلمة التي نالت كل حقوقها تحت مظلة الشرع». الشرع بنصوصه ومواده هو قراءة، رأي وليس مُنَزَّلاً مقدساً، والقراءات الحالية ليست على أي درجة من الإنصاف حتى تكون مساواتية حقوقية تصلح لتكوين دولة مدنية. وفي الغالب لن تتحقق هذه القراءة طالما أن نشاط التفسير والتأويل هو حكر على الرجال. لذلك، فإن الإجابة المبسطة عن سؤال أن هل يمكن أن تتساوى المرأة بالرجل في الدولة الدينية وأن تكتمل حقوقها وتُضمن كل فرصها فيها، هي لا… أبداً.