حتى يحلو الإيمان
تقول فاطمة المرنيسي في كتابها «الحريم السياسي»: «لقد كان الإسلام، على الأقل في قرونه الأولى، دين الفرد العاقل، المسؤول والقادر على تبين الخطأ من الصواب بما امتلك من أدوات عمل علمية وعلى وجه التحديد كتب الحديث. وإذا كنا شهدنا عبر قرون عدة، إخفاق المؤمن الناقد الذي يحاكم الأمور، وإذا كنا شهدنا استبداله بمسلم مراقَب كُمّ فوه، مسلم يعيش الحياة طاعة وشكراً، فإن ذلك لا يضير هذا البعد الأساسي لعلم الدين في شيء». من خلال هذه الجملة، تنطلق المرنيسي في بحث يدقق الحالة العقلية للمسلم ويقارنها بروح العلم الديني الذي يستوجب، في رأيها، تحرير النفس والعقل وإحياء الإرادة الكاملة.
مسلم اليوم مسلوب الإرادة، مسيّر بالشهوات، حيث تدور كل التعاليم المعطاة له حول الشهوة، تلك تحدها، وتلك تجد لها مخرجاً وتلك تسترها. مسلم اليوم يعتقد أن حياته هي نضال ضد شهواته، وذلك كل ما في الأمر، حيث يتمحور النضال إما حول منع ما من شأنه إثارة الشهوات، وإما إيجاد مخرج شرعي لها، ولأن ذلك أكبر الهموم وأقصى النضال، يرى المسلم في كل جانب من جوانب حياته «شهوة» متربصة به عليه أن يتصارع معها أو «يرتب» أمورها. من هذا المنطلق الذابل المريض، يتعامل سياسيونا الإسلاميون، أو مسلمونا السياسيون، والله ما عدنا نعرف أهم أهل سياسة أم رجالات تفقه واجتهاد، مع كل شؤون حياتنا. إن التأكيد المستمر على شهوانية حيواتنا وخطورتها على مرحلة ما بعد الحياة، يحول علاقتنا مع هذه الحياة من علاقة محبة ورضا إلى علاقة عدائية تجعلنا نعتقد أن الدنيا تتربص بنا واضعة «شهوة» في كل مفرق أو زاوية من أعمارنا لتوقع بنا، وتضمنا إلى بقية حطب النار التي لا تشبع.
من باب العداء مع الدنيا هذا، ندخل على كل جوانب حياتنا الأخرى. ننظر بعين الواجل العصابي لكل ما من شأنه أن يضع إرادتنا موضع اختبار، فالامتحان في حد ذاته آثم قبل حتى أن تظهر نتيجته. لذا في الشهر الفضيل الذي هو، قبل أن يهذب رغبات الجسد، يفترض أن يهذب الروح، يتغلغل إلى أعماقها عندما تتباعد والمأكل والمشرب والمتعة الجسدية، عندما تعاني الحرمان، فتسمو إلى أعلى درجات الرحمة والمحبة والتفاني، في هذا الشهر الخلاب الذي يدرب الروح، حيث يبدي لنا خالقها رحمته بضعفها ورغباتها، فلا يمده سوى تلك الثلاثين يوماً، في هذا الشهر الرائق الرحيم، يسجن الناس أو يجلدون أو يعاقبون إذا هم وُجدوا يخرجون عن الصيام الجسدي، حيث لا يعي المعاقِب، ولا أدري أساساً من كفل له هذا الدور، أنه بذلك يخرج الروح عن صيامها ويباعد بينها وبين محبة الدين كنظام اختياري روحاني، فيتحول في نظر المعاقَبين إلى نظام قمعي تنفيذي يستوجب الطاعة العمياء عوضاً عن كونه أسلوب حياة يتطلب التمعن والتفكير والأهم، يستدعي من الإنسان الاختيار… الاختيار.
ولكن، لا أحد يختار اليوم، فالاختيار يستدعي التجربة، وللتجربة نتائج مختلفة تتطلب تفكيرا وتمحيصا وتقريرا، و»سياسلاميونا» لا يريدون لأحد أن يجرب فيتدارس فيختار، «هم المخ ونحن العضلات»، هم يفكرون ونحن… نرفع الأثقال. لذا، ليس لأحد منا أن يختار الدراسة المشتركة مثلاً، فهي تجربة، بلا شك، تضع الإنسان أمام تحديات مختلفة، وهي تحديات تتطلب منه أن يعمل العقل ويقرر ويختار، وإعمال العقل خطر والاختيار نقمة، فإن عقلنا واخترنا، أصبنا أحياناً وأخطأنا أحايين، أعدنا تقييم خياراتنا وعليه أعدنا صياغة قراراتنا، إذا تحررت إرادتنا بهذه الصورة من «الكليرجي» المسلم، ماذا يبقى «لسياسلاميونا»؟
الإرادة والاختيار هما أخطر سلاحين ضد «الكليرجي» الإسلامي الحديث، التنوع هو عدوهم الأول، التعددية هي الموت في عيونهم، ولا دال على هذا العداء، مع الأسف الشديد، أكثر مما يحدث في هذا الشهر الفضيل، الذي يستوجب وضوحاً في الاختيار، بل الذي يتطلب النية المبيتة للصيام، لا الامتناع خوفاً من قانون أو عقوبة. يعود علينا شهر الروحانيات والفضائل مكبلاً بذات التعنت ومتصاحباً بذات القمعيات ليتحول من أيام لتطهير روح الأغنياء تحديداً لأيام سجن الفقراء والعمال الذين تقسرهم وظائفهم المرهقة على كسر صيام ليس لأحد فرضه عليهم من الأساس.
الاختيار، إنه المبدأ الذي تقوم عليه فلسفة الثواب والعقاب، كيف نثاب على اختيارات هي ليست اختياراتنا وقرارات هي ليست ملك يميننا؟ أم أن «سياسلاميونا» سيدخلون الجنة نيابة عنّا كذلك؟
مبارك عليكم الشهر الفضيل وكل سنة وأنتم أحرار، مسلمون مؤمنون بإرادتكم، طيعون ملتزمون باختياركم، فقط عندها يحلو الإيمان وتستحق المثوبة.